عندما بدأ الحديث عن تعميم جديد للبنك المركزي يطلب فيها من البنوك اعادة بعض الدولارات الى المودعين رفضت جمعية ​المصارف​ الامر واعلنت انها لا تملك دولارات في صناديقها الخاصة، وانها بحاجة الى استرداد ودائعها في المركزي. وعندما صدر بيان للاخير يحدد ​آلية​ دفع الودائع بقيمة 800 دولار شهريا، نصفها بالعملة الاميركية ونصفها بالليرة يسعر 12 الف ليرة للدولار، سارعت الجمعية الى الترحيب، ووعدت بالتجاوب .

السر خلف تبدل الموقف جاء في بيان المركزي الذي خفض نسبة الاحتياطي الالزامي من 15 الى 14 في المئة ، ما يعني انه حرر بعض اموال المصارف كي تستطيع تطبيق التعميم الجديد عندما يصدر.

عدة اسئلة تطرح في هذا المجال:

أولا: سبق وتحدث حاكم ​مصرف لبنان​ رياض سلامة عن مفاوضات سيجريها مع المصارف من اجل تحرير 50 الف دولار لكل مودع ابتداء من 30 حزيران الجاري، فاذ كان في الامر تفاوض فلماذا حصل هذا التضارب اعلاميا، بحيث اصدرت ​جمعية المصارف​ بيانين متناقضين؟

ثانيا: نالت المصارف مبتغاها لانها حصلت على واحد في المئة من الاحتياطي، وهي لن تدفع قرشا واحدا من صناديقها، فهل بالفعل يعجز البنك المركزي على الزام البنوك اعادة ودائع الناس من اموالها الخاصة، علما انه لم تمض ايام قليلة على اعلان سلامة نفسه، ومن القصر الجمهوري،ان المصارف تمتلك ارصدة خاصة موجودة في الخارج، وليست كل اموالها لدى البنك المركزي؟

ثالثا: والسؤال الاهم يتعلق بالاحتايطي الالزامي، فقد شكلت حجة عدم المس به الذريعة الاقوى لرفع الدعم، فهل التنازل عن نسبة واحد في المئة منه، تنسجم مع هذا الادعاء؟

الحقيقة غير المعلنة في هذه المسألة، ان قرار رفع الدعم قد اتخذ بالفعل، وقد بدأ تنفيذه تدريجيا، فبدأ فقدان المواد الاساسية من السوق، وارتفعت اسعارها بشكل مخيف، وتبقى رصاصة الرحمة الاخيرة التي سيطلقها المركزي قريبا جدا، بوقف كل اشكال الدعم، ما ان يبدأ المودعون قبض الـ 400 دولار، زائد ما يساويها بالليرة، شهريا، باعتبار ان هذه المبالغ ستكفي الموطنين لشراء حاجياتهم بالاسعار الجديدة. ولكن السؤال الذي يطرح هل يملك كل اللبنانيين ودائع بحيث يحصلون على امتياز سحب بعض دولاراتهم ؟ الجواب بالتأكيد لا.

ومن ناحية ثانية، يرصد البنك المركزي حركة دخول الاموال الى البلد ، ويراهن على ارتفاع حجمها مع كل شهر جديد، لان المزيد من اللبنانيين يهاجرون يوميا ، وسيتحولون في وقت قصير الى محولي اموال الى لبنان.

كما يراهن المركزي على دخول مليار دولار اضافية خلال اشهر الصيف المقبل مع مجيء المغتربين لقضاء العطة في ربوع بلدهم.

ومن ناحية ثالثة لم ينس مصرف لبنان ابدا مليارات الدولارات المخزنة في البيوت، وقد بينت له تجربة الاشهر الاخيرة انه كلما ارتفعت الاسعار كلما زاد صرف الدولارات من قبل العائلات كي تلبي احتياجاتها، ما يؤكد نظرية التخزين هذه.

يتزامن كل ذلك مع هجمة دولية لدعم الجيش والمؤسسات الامنية بالمساعدات المالية والعينية، ما يعني تخفيف عبء الانفاق من الخزينة على هذه المؤسسات الوطنية.

كل الحسابات تؤدي الى نتيجة واحدة ان الصيف سيكون حارا جدا على الصعيد المالي، وما يفعله البنك المركزي هو التبريد من مال الاخرين: فالمودعون سيصرفون ما تمن عليهم به البنوك، والمغتربون سيزودون اهاليهم في لبنان ببعض الكاش الفريش، والمخزنون سيخرجون المزيد من الدولارات من خزائنهم.. اما من لا يستفيد من كل هذه العطاءات فثمة برناج في وزارة الشؤون الاجتماعية لدعم الاسر الاكثر فقرا، اما البطاقة التمويلية فطارت وقد لا تحط مجددا الا قبيل الانتخابات النيابية لانها ستكون ​رشوة​ انخابية تكفل التجديد للطبقة السياسية العفنة اياها.

على الصعيد الاقتصادي المالي البحت يلحس المركزي والمصارف المبرد بالاجراء الجديد، والذي سيكون له تداعيات خطيرة على مستقبل ​القطاع المصرفي​، لان هذا الاجراء سيتيح للبنوك اقفال حوالى مليون حساب مصرفي صغير ومتوسط ، بعد ان اقفلوا في بداية الازمة مئات الاف الحسابات الصغيرة.

والسؤال هو كيف سيبرر القطاع المصرفي استمرار وجوده من دون زبائن ؟ وقد شهدنا اولى علامات الخواء المصرفي باقفال بعض البنوك فروعا كثيرة لها في المناطق، وصرف اعداد كبيرة من الموظفين. وهل سيقتصر دور المصارف على ادارة حسابات كبار المودعين ؟ واذا كان الامر كذلك فما الحاجة الى هذا العدد الضخم من المصارف لعدد قليل من الزبائن؟

تدرك المصارف ان اعادة هيكلة القطاع هي مسألة وقت لا اكثر، ان لم يكن بقرار ذاتي او من السلطة السياسية ، فسيكون خضوعا لقرار ​صندوق النقد الدولي​. وما يجري حاليا هو تحميل المودعين بغالبيتهم الخسائر المالية الفادحة، لان اعادة بعض الودائع بالتقسيط سيعني القسم الآخر سيطاله الهيركات النهائي، وفي كل هذه العملية لن تنفق البنوك من صناديق ارباحها المتراكمة من العام 1993 اي فلس، وتقدر هذه الارباح الموجودة في الخارج بحوالى 28 مليار دولار.

المستقبل القرب مظلم للغاية ، والازمة المعيشية مرشحة للتفاقم اكثر، ولكن الاخطر ان المستقبل المتوسط والبعيد غير مضمون اطلاقا، بل على العكس، فالافلاس الذي وقع سيتحمله المودعون وحدهم، والمصارف ستقفل ابوابها وتهاجر مرتاحة لرساميلها في الخارج ، والقطاع المصرفي سيسقط تدريجيا، و​الاقتصاد اللبناني​ سيدفع الثمن خلال الـ 12 – 19 عاما المقبلة، حسب تقديرات البنك الدولي في تقريره الاخير عن لبنان.