ال​انتخابات​ النيابية المبكرة هي آخر وصفة للطبقة السياسية لتضييع المزيد من الوقت، واشغال نفسها والناس عن المشكلة الحقيقية في البلد، اي الكارثة الاقتصادية – المالية الواقعة، والانهيار الذي اوصلنا الى قاع الهاوية.

الطبقة السياسية عجزت عن تشكيل حكومة مهمة وانقاذ، وفشلت في اجراء انتخابات نيابية فرعية، فكيف ستنجح في تنظيم انتخابات عامة مبكرة، خلال 3 او 4 اشهر، علما ان موعد الانتخابات بعد 11 شهرا ليس بعيدا؟

سؤال يطرح نفسه بقوة هذه الايام. فاذا كان عجز الاكثرية النيابية عن تشكيل حكومة لادارة شؤون البلاد والعباد، يستدعي حتما استبدالها باكثرية اخرى، وهذا هو المنطق الديمقراطي السليم،فان ما يطرح اليوم لا علاقة له بالديمقراطية في جوهرها، بل مجرد مناورة سياسية لا طائل منها، كل ما سيسفر عنها هو هدر وقت لا نملكه قبل الارتطام الكبير.

ما يعنينا في المسألة ليس صراعات السياسة التي تقنع صراعات الطوائف والمذاهب، بل الاقتصاد، بمعنى تأثير ما يجري على ​الوضع الاقتصادي​ والمالي، ومدى ارتباط الخيارات السياسية بهذا الوضع.

احد اسباب تعثر تشكيل الحكومة هو الخوف من الاستحقاقات المالية التي تجنبتها حكومة تصريف الاعمال، ولا ترغب اي حكومة مقبلة بمواجهتها، واهمها التفاوض من ​صندوق النقد الدولي​، تسديد ​ديون​ ​لبنان​ الخارجية، او تسويتها، رفع الدعم للحفاظ على الاحتياطي في "المركزي"، تثبيت سعر الصرف، البطاقة التمويلية ، اعادة هيكلة ​القطاع العام​، و​القطاع المصرفي​ مرورا بالتدقيق الجنائي، معالجة ازمة ​الكهرباء​، الخ ..

الفشل في تشكيل حكومة ليس نتيجة خلاف عقائدي او فكري على مقاربة هذه المشاكل، بل بطريقة استخدام هذه الازمات لتصفية الحسابات السياسية، وتعزيز الموقع الطائفي لهذا الزعيم او ذاك. وعلى سبيل المثال لا الحصر عندما يتحدى احدهم الاخر بالتدقيق الجنائي، ياتي الجواب باثارة موضوع الكهرباء، وعندما تطرح اعادة هيكلة القطاع العام المتضخم والمنتفخ بلا جدوى، بموجود حوالى مئة الف موظف ​بلا عمل​ ، يجيبه الاخر بان الاولوية لاعادة هيكلة القطاع المصرفي المتضخم ايضا .. والمفلس، وهكذا.

الحقيقة ان كل هذه الاجراءات يجب ان تكون بنودا في خطة انقاذ ونهوض متكاملة، وليس عناوين لاستخدامها في الصراع السياسي. خطة تضعها وتتنفذها دولة ، وليس سلطة برؤوس طائفية متعددة.

ما يجري حاليا هو التلويح من الجميع بقلب الطاولة على الجميع. الاقلية النيابية تهدد الاكثرية بالانتخابات ، والاكثرية ترد التحية باقوى منها، باعلان الجهوزية للمعركة، والواقع ان لا هذه ولا تلك متحمسة للانتخابات المبكرة، بل تعملان لعدم اجرائها، واعداد العدة للانتخابات في موعدها. وفي الانتظار تستخدم الطبقة السياسية الشعارات المعتادة، ​مكافحة الفساد​ وسد مزاريب الهدر، وتضيف اليها عناوين جديدة، مثل اعادة اموال المودعين ، وترشيد الدعم ، والبطاقة التمويلية ،والحفاظ على الاحتياطي الالزامي لمصرف لبنان ، والاصلاحات الجذرية في مرافق الدولة.

الاخطر من ذلك ان الارتهان للخارج لم يعد فقط لاسباب سياسية – فكرية – ايدولوجية ، بل صار، وللاسف، جزءا من اللعبة الداخلية،وعلى صعيد الخيارات الاقتصادية،ونقرأ في مواقف الفرقاء الداخليين ان حكومة تدعمها السعودية قد تؤمن التمويل اللازم لاعادة انعاش لبنان واخراجه من الموت السريري، وهي تختلف عن حكومة تدعمها ​ايران​، لن تجلب سوى المزيد من الحصار والعقوبات، في حين ان الحكومة التوافقية التي تدعمها الدولتان معا، هي الافضل لانها تنأى بالبلد عن المحاور والصراعات. بطبيعة الحال، فان الحكومات التوافقية اثبتت فشلها، عدا عن ان هذا التوافق الاقليمي مدعوما من ​المجتمع الدولي​ ليس قريبا.

لذلك فان التعويل على الطبقة السياسية الحالية لتشكيل حكومة تعالج هو مجرد وهم وسراب. اولا بسبب الارتهان للخارج، بالاضافة الى انها هي نفسها التي ستضع قانون الانتخاب الجديد ، او تعدل القانون النافذ، وهذا موضوع اشكالي كبير يعيدنا الى الازمة نفسها ، اي الانقسام الحاد داخل هذه الطبقة معطوفا على الارتباطات الخارجية.

آخر نغمة في مسلسل تضييع الوقت هو الحديث عن حكومة انتخابات بدلا من حكومة مهمة ، وهذا يعني ان هكذا حكومة ستضيع 11 شهرا بلا طائل ، فهل يتحمل البلد؟ وهل يستطيع اللبنانيون انتظار هذه المدة لمعرفة مصير ليرتهم التي فقدت 80% من قيمتها، وستفقد ما تبقى اذا رفع الدعم او اذا نفد الاحتياطي الالزامي؟

مرصد الأزمة في ​الجامعة الأميركية​ اجاب قبل اسابيع قليلة عن هذا السؤال ، واكد ان الانهيار سيكتمل في النصف الثاني من هذا العام.

وجزم أنّ الوضعين الاقتصادي والاجتماعي في لبنان آيلان إلى تأزّم كبير خلال الأشهر المتبقية من العام الجاري وفي مطلع العام الجديد. وكشف عن اقترابنا من انهيار كامل في بعض القطاعات، حصرتها الورقة البحثية في 5 عناوين رئيسة:

1- ارتفاع كبير في معدّليْ ​البطالة​ والفقر مع فقدان 350 ألف وظائفهم في القطاع الخاصّ وانخفاض قيمة الرواتب وصولاً إلى 80 %.

2- تزايد ال​هجرة​ بشكل كبير وأزمة أكبر القطاع الصحّي مع هجرة 600 ​طبيب​ مطلع العام الجاري.

3- المزيد من التدهور في مستوى التعليم، مع انسحاب آلاف التلاميذ من التعليم الخاصّ هذا العام.

4- زيادة ​العنف​ الاجتماعي ومعدّلات الجرائم، مع ارتفاع السرقات 162 % مطلع هذا العام، وارتفاع جرائم القتل 91 % منذ بداية ​الأزمة الاقتصادية​.

5- تنامي النزعات الانفصالية والتقوقع المذهبي.

بطبيعة الحال فان تقرير ​الجامعة الاميركية​ يستحق البحث والشرح والنقاش في مقالات لاحقة ، الا ان خلاصاته، تتقاطع مع نتائج تقارير محلية وخارجية في ان الاشهر القليلة المقبلة هي موعد الانهيار الكبير.

البحث في تشكيل الحكومة ينبغي ان يتمحور فقط حول خياراتها الاقتصادية والمالية بعيدا عن اي اعتبار سياسي طائفي. والانتخابات النيابية ، مبكرة او عادية ، ينبغي ان تركز على البرامج والخطط للمعالجة، وليس على العقائد والايديولوجيات والانتماءات. فالهيكل سقط على روؤس الجميع ، وينبغي الشروع فورا في عملية رفع الانقاض، وانقاذ ما يمكن انقاذه.

الطبقة السياسية فشلت في تشكيل الحكومة سريعا لوقف الانهيار، وهي ستفشل في الاتفاق على اجراء الانتخابات المبكرة او حتى العادية (ثمة مخاوف من قيام قوى الامر الواقع باحداث اضطربات امنية لاجهاضها اذا وجدت ان نتائجها ستكون لغير مصلحتها )، ​فاين​ الحل؟

البعض يتحدث بوقاحة عن ضرورة قيام حكومة عسكرية او وضع لبنان تحت وصاية خارجية . هذا الامران مستحيلان في لبنان، في ظل ​توازن​ القوى القائم حاليا ، ولا يبقى امام اللبنانيين الا الثورة في الشارع.. اذا اندلعت!!!