غيرت ​الازمة المالية​ الحالية حياة ال​لبنان​يين بشكل جذري، وبدأنا نشهد تدهورا دراماتيكيا في نمط العيش، بما يذكرنا بالحياة في مراحل سابقة بعيدة كانت تتميز بالفارق الكبير بين مستويات مختلفة من الانفاق لدى العائلات،وما يرافقها من عادات.

التغير سببه الاساسي انهيار سعر الليرة، وارتفاع سعر ​الدولار​. فقد اعتاد اللبنانيون منذ ثلاثين سنة على سعر صرف ثابت للدولار، وهو 1500 ليرة، وكان ما يجنيه الموظفون والعمال وسائر الفئات من رواتب بالليرة تساوي الكثير من الدولارات، بحيث امكن الانفاق في الداخل والخارج بلا حدود تقريبا. وكانت ظاهرة الاقتراض من ​المصارف​ منتشرة بكثرة ليس لشراء الشقق والعقارات أو ​السيارات​ او امور اساسية اخرى، بل وايضا لمصاريف غير مهمة تعتبر من الكماليات البحتة، مثل تبديل السيارة باستمرار، و​عمليات التجميل​، والسفر السياحي ومصاريف أخرى تعتبر من الكماليات .

كان اللبنانوين مخدوعون بليرتهم القوية، وهي في الواقع ضعيفة للغاية، تحميها وتنفخ قيمتها سياسة تثبيت سعر الصرف بقرار سياسي منذ العام 1992، وقد كلفت هذه السياسة عشرات مليارات الدولارات. وعندما كان المواطن ينفق بسخاء الى حد ما، لم يكن يعرف انه يأكل من لحمه الحي، وانه سيعرف آجلا، أن كل هذا الانفاق أدى الى استنزاف الخزينة العامة التي انفقت على دولة عاجزة ماليا، ومفلسة الى حد كبير، بالاستدانة من المصارف التي قدمت ودائع الناس على طبق من فضة لتحترق شيئا فشيئا في محرقة الانفاق الحكومي الفوضوي،عدا عن الهندسات المالية وارباحها التي صبت في جيوب ال​مصر​فيين وكبار المودعين(وهم ​السياسيون​ انفسهم ) ، تحت شعار استقرار سعر صرف الليرة .والنتيجة الاسوأ لهذه السياسة هي الدولرة غيرالمباشرة ، ولكن الشاملة.

في ايلول 2019 توقفت سياسة لحس المبرد في البنك المركزي والمصارف، وقرر المعنيون وقف تثبيت سعر الليرة ، فبدأ انهيارها، وبدأ المبرد بجرح جيوب اللبنانيين وحياتهم مباشرة، ومنذ ذلك الوقت بدأ المجتمع اللبناني يتغير نحو الاسوأ. فقدت الدولارات من السوق فانقلبت الدنيا رأسا على عقب، واكتشف اللبنانيون ان عملتهم الوطنيةلا تساوي سوى الخيبة، ولا تشتري شيئا، وقد برز ذلك من خلال عدة ظواهر.

الظاهرة الابرز التي نشهدها بوضوح هذه الايام،هي في تخلي الاكثرية الساحقة من البيوت عن ​العاملات المنزليات​، بسبب العجز عن دفع رواتبهن بالدولار الاميركي، أو حتى الانفاق عليهن، فكانت النتجية أن بدأ الاستغناء عنهن، ورميهن امام ابواب سفارات بلادهن، كي تتكفل بتسفيرهن.وسريعا ظهرت الاحصاءات التي تؤشر الى بداية نهاية ظاهرة العاملات المنزليات، فقد سجل العام 2020 تراجعا بنسبة 87 في المئة في اذونات الحصول على خدمات عمال اجانب للبيوت.ترافق ذلك مع رحيل فئة كبيرة من هؤلاء الى بلادهم. وبالتالي لن يمر وقت طويل حتى ينعدم وجود هذه الفئة من العمال في لبنان، او سيتقلص الى ادنى حد.

المعروف انه قبل عقود بعيدة كان استخدام هذه الفئة من اليد ال​عاملة​ مقتصرا على طبقة الاغنياء، وكان من مظاهر الغنى القول بان هذا ​البيت​ فيه خادمة او "صانعة"، وكانت غالبية العاملات المنزليات لبنانيات يتحدرن من قرى الاطراف الفقيرة ، ينتقلن الى بيروت وضواحيها خصوصا، للعمل، في البيوت.ولكن ذلك تبدل في السنوات الاخيرة وتحديدا بعد العام 1990 ، بحيث نشط سوق العمل اللبناني،وانخرطت الامهات فيه بقوة، ما اجبرهن على استئجار عاملة منزلية مقيمة للاعتناء بالاولاد وبالبيت،وقد كان لتواضع الراتب الذي تتقاضاه العاملات القادمات من بلدان فقيرة للغاية مثل ​سريلانكا​ و​بنغلادش​ و​الفليبين​ و​اثيوبيا​ وبعض دول افريقيا، ان شجع الكثير من المنازل على استقدام الخدم،حتى لو تكن هناك حاجة فعلية لهم، ومع الوقت صار وجود خادمة في المنزل من مظاهر الترف والرقي الاجتماعي ، او موضة للتباهي بين العائلات.

اليوم تنتهي هذه الظاهرة المعممة، ويقتصر وجود العاملات المنزليات على بيوت الاغنياء. أما الامهات اللبنانيات العاملات اللواتي يحتجن الى مساعدة في اعمال المنزل والاعتناء الاولاد، ومع صعوبة التكفل بمصاريف خادمة، فقد عادت ظاهرة الاستعانة بالجدات والقريبات بدلا من ترك تربية الاولاد للعاملة الاجنبية.

الظاهرة الثانية على طريق الانتهاء هي اقتناء سيارة. وقد شهد سوق بيع السيارات تراجعا هائلا تسبب باقفال اكثرية ​معارض السيارات​ المستعملة، ووكالات ​استيراد​ السيارات الجديدة. لان اللبناني وبكل بساطة لم يعد قادرا على شراء سيارة. وبعد ان كان سهلا اقتناء سيارة بعشرة الاف دولار، اي ما كان يساوي 15 مليون ليرة، يستحيل على موظف يتقاضى راتبه بالليرة اللبنانية دفع 150 مليون ليرة ثمنا لسيارة.واذا صودف ان الشخص المعني لديه وديعة بالدولار في المصرف ، فهو لن يستطيع الحصول عليها لشراء سيارة جديدة ، الا بالليرة اللبنانية ووفقا لعسر غير واقعي هو سعر المنصة. وينطبق الامر نفسه على من يملك سيارة اليوم، فلو تعطلت يصعب تصليحها بسبب ​ارتفاع اسعار​ قطع الغيار بشكل ​جنوني​، واذا حدث ان اضطر احدهم لتغيير محرك سيارته بالكامل، كما يحدث كثيرا في لبنان، فسيصعب عليه ذلك اذا لم يكن يحوز على بعض الدولارات. ولا شك ان ظاهرة الاستغناء عن السيارات تتقدم، ولكن ليس بنسبة الاستغناء عن العاملات المنزليات، وسنشهد تجدد ظاهرة شراء السيارات المستعملة من داخل لبنان، اي المستوردة قبل الازمة ، أما السيارات الجديدة او المستوردة فسيقتصر طلبها على الميسورين.

الظاهرة الثالثة هي السفر للسياحة. وقد شهدنا في السنوات الاخيرة فورة في هذا السوق،وكانت بعض مواسم الصيف تشهد نزوحا جماعيا للبنانيين الى شواطىء الدول المجاورة مثل ​قبرص​ و​تركيا​ واليونان وحتى مصر، وكانت بضعة مئات من الدولارات تكفي لاخذ عطلة مميزة تدوم بين خمسة وعشرة ايام.اليوم ومع ​البطالة​ المستشرية وانهيار الليرة، صار السفر يكلف ثروة لا يقدر عليها الموظفون، وسنرى تراجعا جديا في سوق السفر، وقد نصل الى مرحلة ان السفر للميسورين فقط، اذا استمر الانحدار اللبناني ماليا.

الظاهرة الرابعة هي تجديد الادوات المنزلية والمفروشات باستمرار. وهذ العادة بدأت تختفي تدريجيا، فتغيير الاثاث مثل الصالون وغرفة النوم أو غرفة الجلوس بهدف التجديد ، بات يكلف مبلغا باهظا ، والاجدى والاوفر الاحتفاظ بما لدينا والمحافظة عليه سليما من الكسر والتلف. وهذا ممكن الى حد ما بالنسبة للمصنوعات الخشبية، ولكن الادوات الكهربائية مثل الغسالات والبرادات وغيرها معرضة اكثر للاعطال. وحالها كما حال السيارات ينبغي الحفاظ عليها برموش العيون .فاذا تعطلت وجب البحث عن سبل لتصليحها، فهي من الضروريات. وينطبق الامر نفسه على بعض الادوات الاخرى في المنزل، كالكومبيوتر و​الهاتف المحمول​، فهي اساسية في حياتنا، ولكن عادة استبدالها بموديل أحدث ستنتهي، اما ادوات الرياضة المنزلية فيمكن ان يتضاءل سوقها الى الصفر تقريبا.

وما ينطبق على مفروشات المنزل ينطبق ايضا على الملابس وهي من الضروريات ، ولكن ليس بمرتبة الغذاء والدواء، وفي هذا القطاع ثمة تراجع كبير للشراء ، وخصوصا للماركات الاجنبية، وسرعان ما ستظهر عندنا مستويات مختلفة ونوعيات متعددة من الملابس حسب اسعارها.

الظاهرة الخامسة تتعلق بالخدمات مثل المطاعم، ومحلات ​الحلويات​، وصالات الرياضة، ودور السينما والمسارح ، ويبدو ان الكثير من هذه الخدمات التي قد تصنف انها كماليات ستتراجع بشدة، باستثناء ما يتعلق بتناول الطعام في الاماكن العامة، التي ستتقلص بشكل كبير بسبب ​ارتفاع الاسعار​ بشكل جنوني، ولن نقصد المطعم بعد اليوم الا في المناسبات. وهذا سينطبق ايضا على قطاع السندويش والدليفري للاكل والحلويات وغيرها الذي شهد انتفاخا كبيرا في السنوات الماضية.

كذلك ينطبق الامر على ​المشروبات الكحولية​ والعصائر بحيث أدى ارتفاع اسعارها الى الحد كثيرا من شرائها.

الحديث عن الطعام، وهو من الضروريات الاولى في حياة الانسان، يجرنا الى الكلام عن ارتفاع اسعار المواد الغذائية التي لا غنى عنها،الا ان ​التقشف​ سيصيبها ايضا، من ناحية اختيار النوعية والاختصار الى الحدود القصوى الطلب على نوعيات معينة. ولا شك اننا مقبلون على ازمة سوء تغذية، فاذا استمر ارتفاع سعر ​اللحوم​ سيلجأ المواطنون الى بدائل مثل الحبوب، ولكن ارتفاع اسعارها ايضا سيوقعنا بمشكلة.

لا يمكن الاستغناء عن الاكل لذلك سنشهد طبقية معينة في اختيار الاغذية التي نتناولها، وسيصير عندنا طعام للاثرياء،وطعام آخر لبقية الناس.

ان احد ابرز مظاهر الازمة هو فقدان الرواتب والاجور لقيمتها مع استحالة البحث في اي تصحيح لها، فالحد الادنى للاجور 675 الف ليرة، وكان يساوي 450 دولارا، وهو اليوم يساوي 45 دولارا فقط، ولن يقبل ارباب العمل ​زيادة الاجور​ مهما صرخ العمال والموظفون وممثلوهم، لان العمل متوقف في معظم القطاعات الاقتصادية، اولا بسبب الازمة المالية، وثانيا بسبب ازمة كورونا. وفي كل الاحوال فان رفع الاجور بنسب كبيرة لن تعيد القمية الشرائية للرواتب بل ستتسبب بزيادة ​التضخم​ لا اكثر ولا اقل. والمخرج الوحيد من هذه الازمة هو في ايجاد حل جذري لمشكلة ارتفاع سعر الدولار، واولى الخطوات تكون بالتقليل الى أبعد حد من درجة الاعتماد عليه، اي بتقليل حجم الاستيراد الذي يشفط الدولارات من لبنان، وثانيا بايجاد مصادر جديدة للعملات الصعبة من الداخل والخارج.

البلد ينتظر تشكيل حكومة من أجل وضع خطط اقتصادية مالية تعيد بعض التوازن الى سوق النقد، بين العرض والطلب، ولكن الحقيقة المؤلمة أن اي حكومة ستتشكل من القوى السياسية نفسها التي افلست البلد، وأسقطت الليرة، لن تفعل سوى تحميل الناس خسائر الانهيار الكبير، وتكاليف اعادة تعويم النظام، وهذا يعني ان الغالبية الساحقة من المواطنين ستبقى في حالة الفقر وان بمستويات متعددة، وستتغير عادات اللبنانيين وانماط عيشهم ومستوى رفاهيتهم لسنوات طويلة .. طويلة.