الإجماع شبه تام في الداخل اللبناني والخارج، على أن كل الطرق نحو الخروج من الأزمة الحالية، تبدأ بتشكيل الحكومة بعد فراغ دام أكثر من 160 يوماً. حكومة عتيدة، يفترض أن يكون عملها مُنصَبّاً على الجانب الاقتصادي والنقدي والمالي والمعيشي بصفة كاملة، في ضوء الإنهيار الحالي الذي يشهده البلد.

ولعل ​القطاع المصرفي​، أحد أهم وأبرز القطاعات، الذي ينتظر التوافقات السياسية، لبدء خطة التعافي، بدءاً بالهيكلة وإمكانية شطب بعض ​المصارف​ ودمج أخرى، في قطاع يُعدُّ أحد أكبر القطاعات في العالم من حيث نسبة الأصول المصرفية إلى ​الناتج المحلي​ الإجمالي.

فهل سنشهد خلال العام 2021 هيكلةً للقطاع المصرفي؟ وهل يمكن أن نشهد في مراحل لاحقة تقلص عدد المصارف؟ وماذا عن المودعين وأموالهم بعد الزيادة في رساميل البنوك؟ وماذا عن دور المصارف في منصة المركزي الجديدة؟

هذه الأسئلة، أجاب عنها د. مروان ​بركات​، كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث لدى "بنك عودة"، في مقابلة مع "الاقتصاد":

منصة المركزي الجديدة، كيف ستساهم في استقرار الوضع النّقدي، وكيف ستساهم المصارف فيها في ضوء أزمة الدّولار المتواصلة؟

"إن القرار الصادر عن السلطات النقدية المرتبط بإطلاق منصة تداول الدولار والسماح للمصارف بالتداول بالعملات على قاعدة المنصة الالكترونية الجديدة المستحدثة التابعة ل​مصرف لبنان​، يعدُّ جيّداً لتعزيز فعاليّة السوق وعمقه وشفافيته، والحد من التذبذبات الملحوظة في السوق، واحتواء ​السيولة​ بالليرة اللبنانية التي تتجه إلى ​السوق السوداء​، ​علم​اً أن ​النقد المتداول​ تجاوز الـ 34 ألف مليار ليرة، وهو ما يُمثّل ثلاثة أضعاف حجمه من سنة ونيِّف. أمّا السعر فيحدّده مصرف لبنان، كونه المتدخّل الأكبر في المنصة التي ستبدأ عملها منتصف نيسان الجاري، مع العلم أن وزير المال تحدث عن سعر مستهدف بقيمة 10 آلاف ليرة للدولار. إلّا أننا نعتقد أن مفعول المنصة مرحلي، وأن الاحتواء الجذري لتفلّت سعر صرف الدولار في السوق الموازي، رهن بتطورات سياسية تعيد الثقة إلى اللبنانيين، وتحدّ من التهافت على تخزين الدولار في المنازل، في غياب المخارج الاقتصادية الإصلاحية.

والجدير ذكره، أن مصرف لبنان سيأتي بالدولارات للتدخل في المنصة عن طريق احتياطاته بالعملات الأجنبية، علماً أننا نتمنّى ألّا يسمح بانخفاض احتياطياته السائلة إلى ما دون الاحتياطي الإلزامي للمصارف والمقدّر ب 16 مليار دولار (15% من قاعدة الودائع بالدولار المقدّرة ب 110 مليار دولار اليوم).

وللإشارة أيضاً، فإن الموجودات الخارجية لمصرف لبنان تُقدّر بـ 22.5 مليار دولار وقت ميزانيته النصف شهرية الأخيرة، إلّا أنها تتضمن 5 مليارات دولار من محفظة الـ "Eurobond"، وبعض ​التسليفات​ المحلية بالعملات، ما يعني أن الاحتياطيات السائلة لا تتعدّى الـ 17 مليار دولار.

وعليه تواجه الدولة سيفاً ذو حدَّين: إمّا أن تنكفئ عن التدخل في سوق القطع ما يساهم في المزيد من تدهور سعر الصرف في السوق الموازي، أو أن تستنزف ما تبقّى من احتياطيات وبالتالي تضع ودائع الزبائن بالعملات الأجنبية على المحك في نهاية المطاف.

من هنا، فإن السبيل الوحيد لكسر هذه الحلقة المفرغة، يكمن في تأمين ​المساعدات​ الخارجية، مع إرساء برنامج كامل مع "​صندوق النقد الدولي​" من قبل الحكومة العتيدة، يضمن مصداقية الدولة في تنفيذ الإصلاحات الموعودة، ويكون له أثر الرافعة للدول المانحة بشكل عام. إن بصيص الأمل الوحيد على هذا الصعيد، يرتبط في بذل كل الجهود لتشكيل الحكومة العتيدة، على أمل إزالة العقبات الحالية التي تواجه التشكيل، وتشكيل حكومة ذات صدقية بشكل و​شيك​، وإطلاق الإصلاحات الهيكلية، وبالتالي تعبيد الطريق أمام عقد مؤتمر دولي داعم للبنان.

هل سنشهد هيكلة للقطاع المصرفي بعد إتمامها زيادة رساميلها؟ وكيف ستكون تبعات هذه الخطوة؟

إن تعاميم مصرف لبنان المتعلقة بإجراءات استثنائية لإعادة تفعيل عمل المصارف في لبنان، يعني التعميم 44 والتعميم 154 وتوابعهما، تتمحور عملياً حول 3 ركائز أساسية التي تعتبر في أساس المكانة المالية للمصارف. هذا هو الـ "Triangle" الشهير في علم الـ "Banking and Finance"، والمتألف من ثلاثة رؤوس، ألا وهي: السيولة "Liquidity"، والملاءة "Capital Adequacy"، والمردودية "Earning Power".

هذه التعاميم مُهمّة من أجل تحفيز المكانة المالية للمصارف، إلّا أنها غير كافية بالمقارنة مع الحاجات الكبيرة المترتّبة خصوصاً في أعقاب تعثّر الدَّولة.

كذلك، إن إعادة الهيكلة على صعيد القطاع المصرفي ضرورية، ففي ظلّ وجود قطاع مصرفي يتجاوز ثلاث مرات الناتج المحلي الإجمالي، من الطبيعي القول إن بُعد ​القطاع المصرفي اللبناني​ ضخم مقارنةً ببُعد الاقتصاد الوطني. في الواقع، يعتبر القطاع المصرفي اللبناني أحد أكبر القطاعات في العالم من حيث نسبة الأصول المصرفية إلى الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي فإن حجم هذه الأصول المصرفية أكبر مما هو مطلوب لتحقيق تمويل الاقتصاد المنتج. من هنا، فإن إجمالي أصول القطاع المصرفي في لبنان يجب أن يتقلّص إلى نحو 150% من الناتج المحلي الإجمالي، بُعيد إعادة الهيكلة تماشياً مع البلاد ذات البنى الاقتصادية المشابهة للبنان.

يملك لبنان عدد مصارف قياسي بالنسبة لحجم البلد واقتصاده، هل يمكن أن نشهد في مراحل لاحقة تقلص عدد المصارف من أكثر من 60 إلى أقل من 10 بنوك تجارية لبنانية؟

لا شك أن عدد المصارف في لبنان كبير مقارنةً مع طاقة الاقتصاد، من هنا أهمية الوصول إلى قطاع أفعل وأصغر حجماً، في هذا السياق، قد يضطر مصرف لبنان إلى وضع اليد على المؤسسات المصرفية الأكثر تضرراً أو غير القادرة على تحسين وضعيتها المالية، وفقاً لمتطلّبات مصرف لبنان، وبالتالي تعيين إدارة مؤقتة عليها وعرضها على مستثمرين جدد، أو دفعها إلى الاندماج مع مؤسسات مصرفية أخرى، ما من شأنه أن يؤدي إلى تقليص عدد المصارف في القطاع، والذي يمكن أن يكون له انعكاسات على القوى العاملة إنما ليس على قاعدة الودائع.

أنا أعتقد أن هناك بعض المصارف تريد طوعاً الخروج من السوق، لذلك لم تؤل أي جهد لتعزيز سيولتها وملاءتها تماشياً مع متطلبات مصرف لبنان، إنما أعتقد أن عدد هذه المصارف لا يتجاوز أصابع اليد. مع انقضاء مهلة نهاية شباط، سيقوم مصرف لبنان بدرس البيانات والملفات لكل مصرف على حدى وينظر في خصائص كل مصرف. على سبيل المثال، إذا أحد المصارف باع فروعاً له في الخارج ولم يقبض ثمنها بعد بانتظار كل الموافقات الرقابية، سيكون على الأرجح مصرف لبنان ليّنا بانتظار إتمام الصفقة بالكامل. أي أن مصرف لبنان، سينظر في سبب التأخر، وإذا كان هذا التأخير آنيّاً، أو يعبِّرُ عن عدم قدرة المصرف المطلقة بالتجاوب مع المتطلبات الجديدة.

فمن الواضح، أن بعض المصارف قد تجد صعوبة في التكيّف وتلبية المتطلبات في ظل هذا المناخ السائد حالياً، وسيتعيّن عليها الخروج من السوق، في حين أن مصارف أخرى، ستكون قادرة على البقاء ومواصلة العمل، حتى لو كان ذلك يعني الاضطرار إلى بيع جزء من مؤسساتها التابعة في الخارج، من أجل ضخّ سيولة كافية وتعزيز رساميلها. هنا تبرز الجهود الحثيثة التي تقوم بها كبرى المصارف حالياً، من أجل بيع مؤسسات تابعة لها في الخارج تماشياً مع متطلبات السيولة والرسملة المفروضة حديثاً من مصرف لبنان.

الجدير بالذكر هنا، أن عدد ​المصارف اللبنانية​ المتواجدة في الخارج يصل إلى 18 مصرفاً موزّعة على 32 دولة، عبر شبكة فروع مؤلفة من 329 فرعاً تدير أصولاً إجمالية تبلغ 37 مليار دولار. هذه المصارف بشكل خاص هي الأوفر حظاً في التماشي مع المتطلبات الرقابية المتزايدة لمصرف لبنان الآنية والمستقبلية.

الأموال التي أمّنها القطاع المصرفي في ضوء زيادة الرساميل، كيف ستنعكس في عمل المصارف وعلاقتها مع المودعين؟

فيما يتعلّق بزيادة الرساميل، طلب مصرف لبنان من المصارف زيادة أموالها الخاصة الأساسية بنسبة 20% من حقوق حملة الأسهم العادية (Common Equity Tier 1) عن طريق مقدمات نقدية (Cash Contribution)، ومن الممكن استعمال ودائعهم بالدولار المحلي أو استحواذ عقارات من المساهمين مقابل زيادة مساهمتهم أو حتى قيام المصارف بإعادة تقييم الموجودات الثابتة لديها. أهمية التعميم، تكمن في أنه يعزّز الملاءة للمصارف، وبالتالي يؤمن تغطية أفضل لقاعدة الودائع من قبل حقوق المساهمين، إلّا أن الملاءة تتآكل بشكل لافت نتيجة تراجع الأموال الخاصة بفعل الخسائر. ففي العام 2020 سجّلت المصارف خسائر متراكمة بقيمة 2.9 مليار دولار ومن المتوقع أن تتراجع الأموال الخاصة بشكل متزايد نتيجة متطلبات المؤونات: المؤونات تجاه محفظة التسليف للقطاع الخاص التي تتزايد بها القروض الهالكة والتي أصبحت تشكّل 40% من القروض الإجمالية في نهاية العام 2020، المؤونات تجاه محفظة الـ "Eurobonds" بما يوازي 45% من محفظة الـ "Eurobonds" التي تحملها المصارف والتي تقدّر بـ 10 مليارات دولار اليوم، ما يعني 4.5 مليار دولار من المؤونات، ناهيك عن المؤونات الكبيرة التي تطالب بها "Auditors" المصارف تجاه التوظيفات بمصرف لبنان وفق المعايير الدولية "IFRS9". من هنا، إذا سلّمنا جدلاً أن أغلب المصارف قد تستطيع زيادة رساميلها بنسبة 20%، تبقى حاجات الرّسملة أكبر من الـ 20% المطلوبة حالياً والمقدّرة بـ 3.2 مليار دولار.

أمّا فيما يتعلّق بقاعدة الودائع، فإن الحلول ما زالت موجودة، إنما هذه الحلول يجب أن تكون على مستوى كليّ وليس جزئي لتكون فعَّالة. بمعنى آخر، يجب أن تكون على مستوى الدولة ككلّ، وليس على مستوى القطاع المصرفي (Stricto Sensu)، لأن المعضلة عامة، من جراء الترابط الوثيق بين المصارف ومصرف لبنان والدولة والاقتصاد الكلّي. وبالتالي الخروج من المأزق يجب أن يكون عن طريق تعويم الدولة المتعثّرة وإعادة الهيكلة المنتظمة.

ما هي الخيارات المتاحة مستقبلاً؟

في الواقع هناك خياران، الخيار الأول الذي يجب تجنّبه بكافة الطرق يتمثّل بسيناريو المراوحة والجمود والا إصلاح على مستوى الدولة والذي قد يؤّدي في نهاية المطاف إلى "الليلرة" المطلقة، في حين أن الخيار الثاني يقوم على إعادة هيكلة منتظمة وفق برنامج إصلاحي مع "صندوق النقد الدولي"، من شأنه أن يكون المفتاح للتصحيح الضروري للوضع المالي بشكل عام.

في الحقيقـة، إن خيار إعادة الهيكلة المنتظمة، ينبغي أن يترافق مع الالتزام ببرنامج لـ "صندوق النقد الدولي" يشمل الإصلاحات الهيكلية والمالية المطلوبة، ما من شأن ذلك أن يساهم في استعادة الثقة وإطلاق مساعدات مؤتمر "سيدر" و​استثمارات​ أخرى في الاقتصاد الوطني. وهو ما ينبغي أن يعتمد على خفض العجز المالي للدولة عن طريق إصلاحات مالية، وإنشاء صندوق سيادي يتضمّن قسطاً من أصول الدولة يقدّر بنحو 30 مليار دولار (يُستخدم بشكل مباشر أو غير مباشر لتأمين ذمم المصارف عليها وبالتالي التزاماتها تجاه المودعين)، ضخّ السيولة في القطاع المصرفي من خلال خطوط ائتمانية مقابل ​احتياطي الذهب​، ناهيك عن تحرير سعر صرف العملة الوطنية ما من شأنه أن يخفّض من ​الدين العام​ بالليرة، والبدء بمفاوضات جدّية مع حاملي سندات اليوروبوندز السيادية. إن الهدف من هذا الاتجاه هو ضمان توزيع عادل ومنصف للخسائر بين جميع العملاء الاقتصاديين، وتخفيض الدين العام إلى مستويات مستدامة، أي بحدود 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وتحرير جزء من أموال المودعين دون التطرّق إلى إجراءات "Haircut"، وأخيراً المساهمة في إعادة الثقة في الاقتصاد الوطني وفي القطاع المصرفي، لتعزيز القدرة على إعادة جذب الأموال إلى الاقتصاد المحلي بشكل عام.