تنقسم القوى السياسية الرئيسية عند مقاربتها ​السياسة النقدية​ وأداء حاكم ​مصرف لبنان​ ​رياض سلامة​ بوصفه المسؤول عن الحفاظ على ثبات وسلامة النقد في لبنان، وفقاً لأحكام قانون النقد والتسليف. وقد عاد هذا الموضوع إلى الواجهة بقوة مع السقوط الأخير لليرة اللبنانية وتسجيل سعر صرف ​الدولار​ 15 ألف ليرة الأسبوع الماضي، وخصوصاً أن الحاكم كان مسافراً، وعندما عاد التقى الرئيس المكلف ​سعد الحريري​ و​وزير المال​ غازي وزني وترأس اجتماعاً للمجلس المركزي لمصرف لبنان.. وأعلن اثر ذلك عن تقديم مقترحات تساهم في لجم ارتفاع الدولار... وفي اليوم التالي عقد لقاء جديد حمل الرقم 17 بين رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ والحريري للبحث بتشكيل الحكومة، فهبط الدولار بسحر ساحر من 14 ألف ليرة إلى اقل من 11 الف ليرة في يوم واحد.

السؤال المطروح: هل أدت مقترحات سلامة إلى هذا الانخفاض، أم أن السبب سياسي، وهو نتيجة للتهدئة التي أرساها لقاء الرئيسين في بعبدا؟

يصعب الجزم هذه الأيام عن سبب أي شيء يحصل في البلد، ولا يمكن فصل السياسي عن المالي – ال​اقتصاد​ي، لكن المؤكد أن ما يجري الآن هو الفوضى المدمرة التي يسعى البعض إلى جعلها خلاقة !! ولكنها في كل الأحوال تبقى فوضى ..

الانقسام

قبل أكثر من سنة احتدم النقاش حول أهلية رياض سلامة وسياسته، وكانت قوى مثل التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية و​حزب الله​ بالاضافة إلى الأحزاب اليسارية ومستقلين، يعتبرونه مسؤولاً عن الانهيار المالي، ووقتها، أي مباشرة بعد انتفاضة 17 تشرين، كان ​سعر صرف الدولار​ لا يتجاوز 2500 ليرة، وقد طرح جدياً موضوع اقالة سلامة، فخرج رئيس مجلس النواب نبيه بري بتصريح شهير ليقول: "اذا أقلنا الحاكم بيصير الدولار بـ 15 الف"، وبعد ذلك نظم التيار الوطني الحر تظاهرة باتجاه مصرف لبنان، فقطع الحزب التقدمي الاشتراكي الطريق عليها وحصل اشتباك شوارعي محدود، ومن جهتهما ظلت "القوات" و"حزب الله" على معارضتهما الصامتة أغلب الأحيان، لاداء سلامة. وفي الجهة المقابلة تشكلت جبهة الدفاع عن الرجل من تيار المستقبل و​حركة أمل​ والحزب الاشتراكي، ومن خلفهم بقية أحزاب سلطة ما بعد الطائف، وتحديداً مرحلة 1990 – 2005، وهي المرحلة التي تأسست فيها كل عوامل الانهيار الحالي.

تبدل سياسي

اليوم وبعد أن حطم الدولار رقماً قياسياً بتسجيل 15 الف ليرة هل تبدلت مواقف الأحزاب داخل السلطة أو خارجها؟ وهل يحل خروج سلامة من موقعه المشكلة؟

نلاحظ تبدلاً حقيقياً في المزاج السياسي اليوم، وقد عبر عن ذلك أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله عندما انتقد بالأمس بري مواربة، وقال بشكل غير مباشر انه هو من حمى الحاكم يوم قال إن اقالته سترفع الدولار. وكذلك، ثمة كلام في قصر بعبدا أنه آوان أوان التغيير في مصرف لبنان، بالتزامن مع انتقادات فرنسية حادة تكررت مرات عدة، لسياسة البونزي التي اعتمدها سلامة لتمويل دولة واقتصاد مفلسين. وكل ذلك معطوف على ملاحقات قضائية بحق الرجل في لبنان والخارج، بالاضافة الى أنباء أميركية ملتبسة تتحدث عن شكوك بقدارت الحاكم على الاستمرار.

بالعودة الى الدولار وتقلباته وجنونه يجدر بنا أولاً مراجعة سريعة لمساره التصاعدي منذ ايلول 2019 وحتى اليوم، واستعراض بعض الاجراءات التي اتخذها المركزي والتي لم تنجح بلجم الدولار.

العام 2019

بدأ تدهور الليرة في ايلول 2019 وبلغ سعر الدولار مع نهاية ذلك الشهر 2000 ليرة، وبعد انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 بنحو شهر كان سعر صرف الدولار يتراوح بين 2000 و2400 ليرة لبنانية للدولار الواحد. وكان السعر في حينه خاضعاً الى حد بعيد لعملية العرض والطلب، وكان مصرف لبنان لا يزال قادراً على الإيفاء بالتزاماته المالية، خصوصاً استحقاقات سندات اليوروبوند، وبعد ذلك أعلنت الحكومة تعليق سداد هذه السندات، وذلك للحفاظ على ما تبقى من دولارات في البلد.

ولكن هذه الدولارات كانت موجودة بوفرة في حسابات المودعين. وفي كانون الأول 2019 وحين كان الدولار بـ 2150 ليرة أطلق سلامة الـHaircut المقنع إذ أعلن أن "​المصارف​ غير ملزمة بدفع أموال مودعيها بالدولار وإنّما باللّيرة اللبنانية"، فتلقفت المصارف الأمر وبدأ مسلسل القص من خلال اجبار المودعين لسحب ودائعهم الدولارية بليرة لبنانية متدهورة.

في ذلك الوقت وخلال فترة اقفال المصارف لأسبوعين جرى تحويل الأرصدة الكبيرة الى الخارج، ولا نعرف كم جرى تهريب من مليارات الدولارات إلى الخارج. يومها بدأ الحديث عن مصارف متعثرة أو مفلسة، وعن ضرورة اعادة هيكلة المصارف العاملة في لبنان، ولكن ذلك لم يحدث.

العام 2020

في شهر شباط 2020، بلغ سعر الصرف عتبة الـ2500 ليرة لبنانية. ولم يسأل أحد مصرف لبنان عما يفعل للجم الارتفاع، بل تم التركيز سياسياً وقضائياً وأمنياً على الصرافين المخالفين لتسعيرة حددها المركزي بزيادة 30% على سعر الصرف الرسمي، اي حوالى 1950 ليرة للدولار. في وقت استمر تهريب الودائع الكبيرة وكذلك تقنين ​سحوبات​ "صغار" المودعين. حتى حل شهر آذار وسجل الدولار 2650 ليرة، وتم نسف مشروع قانون الـ"كابيتل كونترول"، من قبل سلامة وحلفائه السياسيين والنواب والمصرفيين. وأدى ذلك إلى المزيد من خروج الأموال من البلد.

في نيسان اتخذ المركزي سلسلة اجراءات لامتصاص نقمة الشارع والمعارضين، فصدر التعميم رقم 547 الخاص بإقراض العملاء المتعثّرين ومساعدتهم على دفع رواتب العمال والمصاريف التشغيلية في المؤسسات، ثم التعميم رقم 148 الخاص بدفع الأموال للمودعين دون الـ3 آلاف دولار شرط إقفال الحسابات. وساهم التعميمان في ضخ بعض السيولة في السوق، ولكن ذلك لم يحل دون تسجيل الدولار قفزة جديدة فبلغ 3850 ليرة.

أما التعميم رقم 149، فنصّ على إنشاء وحدة خاصة في مديرية العمليات النقدية، تتولى التداول ب​العملات​ الأجنبية النقدية وفقاً لسعر السوق، وإنشاء منصة إلكترونية، أطلقت بعد ذلك بأشهر، وكانت بمثابة تشريع وقوننة وجود 3 أسعار صرف للدولار: السعر الرسمي، سعر المنصة، وسعر ​السوق السوداء​. بعد ذلك ألزم مصرف لبنان المودعين بسحب دولاراتهم من المصارف بسعر المنصة، وكان ذلك شكلاَ أكثر وضوحاَ من الـHaircut ، ولامس سعر الصرف مع بدايات شهر أيار 2020 عتبة الـ4000 ليرة، ثم بدأ بالارتفاع التدريجي وظل دون الـ5000 طوال ذلك الشهر، ولكن الدولار تخطى هذه العتبة في حزيران الذي شهد أيضاً تمرد السوق الكامل على البنك المركزي من خلال اطلاق التطبيقات على ​الهواتف الذكية​ التي صارت هي المرجع لعمليات العرض والطلب، وصار بالامكان القول أن السوق السوداء هي السوق الحقيقية. ولم يفلح قرار مصرف لبنان بمدّ صرافي "الفئة أ" بالدولارات (300 ألف دولار يومياً) لتمويل الإستيراد ولدفع رواتب الموظفين الأجانب وللمواطنين العاديين بمعدل 200 دولار شهرياً لكل شخص. وقد شهدنا طوابير الناس أمام هؤلاء الصرافين ليشتري المواطن مئتي دولار بـ 3 الاف ليرة ويبيعها فوراً للصراف نفسه بـ 7800 ليرة .

قفزة كبرى

شهر تموز شهد أعلى مستوى لسعر صرف الدولار خلال سنة 2020. لامس صرف الدولار عتبة الـ9000 ليرة، وعلى الرغم من هبوطه لاحقاً إلى حدود 7000 ليرة، الى أن بدء الحديث عن وقف الدعم الذي أقرّه مصرف لبنان في نهاية 2019 للسلع الاستراتيجية (المحروقات والدواء والقمح) بسبب شح احتياطي المركزي من العملات الصعبة، جعل الدولار ينهي العام 2020 بسعر 7500 ليرة في كانون الأول.

السقوط الحر

أما الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي 2021، فسجل الدولار قفزة جديدة ليتم التداول به خلال كانون الثاني وشباط بحدود الـ9000 ليرة، ثم يقفز إلى أعلى مستوى له أي 15 الف ليرة. وتتميز هذه الفترة بثلاثة أمور: الأول، احتدام الصراع السياسي المتمثل خصوصاً بتعثر تشكيل حكومة جديدة، ويقال ان أحد أسباب هذا التعثر هو الصراع المسبق على الخيارات المالية، وعلى مصير رياض سلامة نفسه، وعلى موضوع التدقيق الجنائي. والثاني،غياب البنك المركزي عن السوق المالي، باستثناء طلبه من المصارف بزيادة رأسمالها بنسبة 20 في المئة، وتخصيص 3 في المئة من ودائعها بالعملات الصعبة لدى المصارف المراسلة، ولكن هذا التعميم لم ينفذ حتى الآن، وفي كل الأحوال، لا تعني زيادة الرساميل ان المصارف ستفرج عن ودائع الناس. أما الأمر الثالث، فهو تفلت الدولار من كل الضوابط، وتثبيت واقع أن سعر السوق السوداء هو السعر الفعلي للدولار.

النتيجة تخطي الدولار عتب الـ 15 الف ليرة، ولا أحد يضمن أن هبوطه ألفين أو ثلاثة الاف ليرة في يوم، لن يتبعه تحليق جديد إلى ما فوق هذه العتبة مجدداً في القادم من الأيام، لانه وبكل بساطة: لا توجد مرجعية نقدية تدير العرض والطلب، ولا توجد سلطة سياسية تتخذ القرارات اللازمة، وحتى لو تشكلت الحكومة فوراً وقررت اقتراض 10 مليارات دولار من ​صندوق النقد​، وحتى لو وافق الصندوق على ذلك، فان اعادة ضبط سوق النقد يحتاج الى أشهر طويلة ان لم نقل سنوات.

خلاصة

هل كان بالامكان افضل مما كان؟ وهل بقاء سلامة في منصبه هو سبب الانهيار؟ وهل اقالته يمكن أن تؤدي الى لجم التدهور؟

أياً كانت الاجابات على هذه الاسئلة فإنها تأتي متأخرة جداً، أي بعد خراب ​البصرة​. والسلطة التي تفرجت على انهيار الليرة خلال الـ17 شهرا الماضية باتت عاجزة عن اجتراح اي حلول. فقد اعلن الوزير وزني أن الاحتياطي المتبقي في مصرف لبنان هو 16 مليار دولار فقط، وهي ما تبقى من ودائع الناس. وكما شهدنا في الأسابيع القليلة الماضية فان الحكومة والمجلس النيابي ذاهبان إلى تبديد هذه المليارات ببطء، ولكن بثبات، من خلال ابقاء الدعم على حاله، وأكثر من نصفه يذهب لاستفادة ​التجار​ والمهربين، ومن خلال تمويل ​الكهرباء​ اضطرارياً كي لا ندخل في العتمة الشاملة. وفي كل الأحوال، فان هذا الاحتياطي لا يمكن مصرف لبنان، أياً كان حاكمه من التدخل في السوق وضبطه والتحكم بعملية العرض والطلب. لذا فان الدولار حر متفلت من كل قيد .

انها لحظة الحقيقة ومرحلة السقوط الحر.

الطبقة السياسية منقسمة على نفسها، وعاجزة حتى عن تركيب ائتلاف بين مكوناتها المختلفة، في حكومة لن تغني ولن تسمن عن جوع، وهي تأخذ البلد الى صراعات الشوارع، وربما الى الحرب الأهلية... والكل ينتظر الخارج .