يُمكن القول، إن كل ما ترتّب على قرارات ​مصرف لبنان​ وأداء ​المصارف​، وجميع الإجراءات المتُّخذة على الصعيد ال​مالي​ والنّقدي على مدى عام ونصف، لم تُفلح في إعادة الانتظام إلى القطاع المالي ولو جزئيّاً.

وعلى العكس، ساهمت التعميمات المتلاحقة، وغيابُ الرقابة حول أداء المصارف، بضرب حقوق أصحاب الودائع ومصالحهم، وآخر ما قطفه اللبنانيون من آثار سلبية لسياسات مالية غير مدروسة، وصول سعر الصّرف إلى 10 آلاف ليرة وتضخم مالي غير مسبوق وتدني القدرة الشرائية وفلتان اقتصادي.

فَرض رياض سلامة، التعميم رقم 154 كآخر فصلٍ في سياساته لـ "إعادة الإنتظام" للقطاع المصرفي، وغاب عنه وضع الضّوابط، ومراقبة كيفية حصول المصارف على الدّولارات اللازمة لزيادة رساميلها بموجب التعميم المذكور، وأبقى حاكم المركزي العشوائية، تحكم طريقة عمل المصارف في السّوق السوداء، ما أوصل سعر صرف ​الدولار​ مستوى 10 آلاف ليرة، وسط تحذيرات ببلوغه مستويات قياسية جديدة.

الخبير الاقتصادي​ والمالي محمود جباعي، شرح في مقابلة مع "الاقتصاد" أسباب التّفلت الذي أصاب السوق النقدي، وحدّد مُسببي الأزمة المتجددة، وأشار إلى التبعات المختلفة على الصعد الاقتصادية والمالية والاجتماعية.

ما أسباب التّفلت الذي أصاب سعر الصّرف وتسبب بارتفاع الدّولار بدون كوابح منذ فترة الشهر حتى اليوم؟

"السبب الرئيسي وراء هذا الارتفاع، يعود إلى تعميم مصرف لبنان رقم 154، والذي يُلزم المصارف أن تزيد رأسمالها بنسبة 20%، وتكوين حساب لدى المصارف المراسلة بنسبة 3% من مجمل الودائع لديها.

العديد من المصارف تعثّرت في تأمين الزيادة دفتريّاً و"كاش"، ولم تلتزم بجذب 15% من قيمة ​الحوالات​ التي خرجت من لبنان البالغة قيمتها 500 ألف دولار أو أكثر بعد عام 2017، إذ إن هذا التعميم لم يكن ملزماً لأصحاب المصارف والودائع، وكان تحت عنوان "التحفيز".

إن التحفيز لن يُجبر أي أحد على إعادة أمواله إلى لبنان بسبب انعدام الثّقة المعروفة الأسباب، وعلى رأسها عدم قدرة المودعين على الحصول على أموالهم، والـ "​كابيتال​ كونترول" غير المنظّم، والـ "هيركات" العشوائي، وبالتالي فإن كل أصحاب ​رؤوس الأموال​ الذين أخرجوا أموالهم من لبنان، لم تنجح المصارف في إقناعهم بإعادة أموالهم، وهو ما يظهر في النسبة المُسجلة في هذا الإطار، حيث لم تتعدَّ نسبة الأموال المُعادة إلى المصارف الـ 20% من المبالغ المطلوبة والمقدّر بـ 15%.

هذا المسار، دفع المصارف إلى الرّسملة الدّفترية، عبر تحويل ودائع معينة أو إعطاء ​شيك​ات مصرفية على 70% حسم (كل مليون دولار شيك يعادل 300 ألف دولار فريش)؛ والرّسملة الدّفترية التي اعتمدتها المصارف، هي وهمية أساساً، كما الودائع في البنوك حالياً وهمية.

آخر محاولات المصارف لزيادة الرّسملة، تمثّل بتوجهها نحو السّوق السّوداء، حيث عملت على تأمين باقي الأموال المطلوبة منها للرسملة.

والجدير ذكره هنا، أن مصرفين كبيرين من "فئة ألفا"، لم يستطيعا تأمين الرّسملة المطلوبة منهما، كونها عالية جداً، إذ إن رأسمال "فئة ألفا" قد يتراوح بين 10 و30 مليار دولار، وهو ما دفع البنوك للجوء إلى السّوق السّوداء، ما تسبب بالارتفاع الحاصل في سعر صرف الدّولار في السّوق السّوداء، وشهدت فترة الـ 10 أيام الأخيرة من المهلة المعطاة للبنوك لزيادة رساميلها قبل 1 آذار، زيادة كبيرة في الطلب على الدّولار بالسوق، وتسببت المنافسة بين المصارف في عمليات ​مضاربة​، ما نتج عنه زيادة سعر صرف الدّولار لدى الصرافين، حتّى وصل إلى عبتة الـ 10 آلاف ليرة للدّولار الواحد.

وهنا يمكن القول، إن التعميم 154، وطريقة تطبيقه، كان السبب الأبرز في صعود سعر صرف الدّولار بالسّوق الموازي."

أين أصبح مسار تطبيق التعميم 154 وهل نتّجه نحو تمديد المهلة؟

"إن البيان الأخير الصّادر عن المجلس المركزي في مصرف لبنان، يحمل في طيّاته، قبولاً ضمنياً من المركزي للتمديد لبعض المصارف بخصوص تطبيق التّعميم. إذ إن قول مصرف لبنان: "دراسة وضع كل مصرف على حدة"، يعني إعطاء شكل من أشكال الإستثناء، وعدم التّعامل من كل المصارف بنفس المعايير، حيث ستحصل المصارف الكبرى المتعثرة حتى الآن على فرصة، لأن إفلاس أي مصرف من هذه الفئة يشكل ضرراً لا يمكن للمركزي احتواءه، إذ لا يستطيع مصرف لبنان الآن، وضع يده على مصرف يبلغ رأسماله 10 مليارات دولار أو أكثر، مع استحالة المركزي تأمين الودائع.

المسار اليوم ذاهب لتمديد المهل لبعض المصارف المتوسطة والكبيرة ولمدة لا تقل عن شهر، لإعطائها فرصة لزيادة رساميلها، مع اختلاف بالمعايير، وبذلك يكون مصرف لبنان قد رضخ لـ "​جمعية مصارف لبنان​"، بهذا الخصوص."

تمديد المهل لبعض المصارف، كيف سينعكس على سعر صرف الدّولار؟

"إن تمديد مهلة زيادة الرّسملة، بدون وضع مصرف لبنان ضوابط في السوق، سيساهم مزيد من التفّلت غير المسبوق في سعر صرف الدّولار.

وإذا لم يعمل مصرف لبنان على إصدار تعميم جديد بـ "كابيتال كونترول" على المصارف، ومراقبة كيفية حصولها على الدّولارات، وفي حال بقيت العشوائية تحكم طريقة عمل المصارف في السّوق السوداء، فقد يصل ​سعر صرف الدولار​ إلى مستويات قياسية جديدة.

المشكلة اليوم، تكمن في أن مصرف لبنان طلب من المصارف زيادة رساميلها، لكنه لم يراقب مصادر الرّسملة، ولم يضع الضّوابط بهذا الخصوص، وتبقى الأسئلة إن كان الرأسمال المجموع من قبل المصارف خلال هذه الفترة، كُوِّنَ دفترياً؟ أو أنه رأسمال وهمي؟ أو هو "فريش دولار" دخل من الخارج؟

إعادة الرّسملة ضرورية حالياً للاقتصاد، شرط أن تكون من خارج لبنان، تساهم في تدفق العملة الصّعبة للقطاع المصرفي، إذ تساهم هذه الخطوة في بثّ الرّوح من جديد في البنوك، وإعادة أموال المودعين؛ أما الرسملة الدّفترية فهي وهمية، وشبيهة بمصطلح (اللولار)."

التبعات الإضافية لحصول المصارف على الدّولار من ​السوق السوداء

"اللجوء إلى السّوق السّوداء أثمر مزيداً من ​التضخم​، وانهياراً متواصلاً، وساهم في نضوب العملة الخضراء لدى الصرافين. وتبعات ذلك انسحبت على عدم قدرة المستوردين وعلى رأسهم المواد الغذائية، على إيجاد دولار في السوق الموازي، لشراء السّلع الأساسية من الخارج. ما يفرض أزمة جديدة إلى الإنهيار الحاصل، تتمثّل بفقدان سلع جديدة، ما يخلق أزمة معيشية، وشحاً في المواد بسبب عدم قدرة المستوردين على الحصول على الدولار، بفعل زيادة الطلب وندرة العرض.

السياسات النقّدية منذ سنة ونصف وحتى اليوم، ساهمت جميعها في ارتفاع سعر صرف الدّولار، وقد يكون للمصارف ومصرف لبنان مصلحة مبطّنة في ارتفاع سعر صرف الدّولار، مع وجود مبلغ مفقود يبلغ 58 مليار دولار من ودائع الناس، استدانه مصرف لبنان من البنوك وعمل على تمويل نفقات الدّولة والدّيون والدّعم منه.

إن مصرف لبنان عندما لجأ إلى ​طباعة​ العملة وتحويل الدّولار إلى "لولار" على سعر 3900 ليرة، موّل السّوق بالليرة لبنانية وصلت حالياً إلى 26 ألف مليار ليرة، أي أكثر بأضعاف من عرض الدّولار، وخلق هذا الأمر حالة من عدم التّوازن بين ​الكتلة النقدية​ بالدّولار، والكتلة النقدية بالليرة، وهو ما دفع سعر صرف الدّولار بداية للوصول إلى عتبة الـ 8 آلاف ليرة.

واستفاد مصرف لبنان والمصارف من هذه العملية، عبر قيامهم بصرف ما تبقى من دولارات على سعر صرف السّوق، وإعطاء المودعين نصف قيمة أموالهم أو 40% منها، وتمكنت المصارف هنا، من شطب ديون دفترية عليها للمودعين. وتشير التقارير، إلى أنه خلال عام ونصف، استطاعت المصارف شطب ما بين 28 إلى 30 مليار دولار، من أصل الـ 58 ملياراً المفقودة، ما يضمن أن خلال عام مقبل، ستتمكن المصارف من شطب كامل المبلغ، فيما يكون المودع قد خسر قيمة وديعته لتفاوت سعر صرفها مع السّوق.

برأيي، هذه الخطة ممنهجة، وتأخير التدقيق الجنائي، قد تكون إحدى أسبابه شطب كامل الدّيون الدّفترية للمصارف، لأن أي تدقيق حالياً، كفيل بأن يكشف "الفارق" الموجود، بين الأرقام الحقيقية للمودعين بالدّولار، والأرقام الموجودة، سواء كانت ديوناً أو موجودات.

وكل التعاميم التي ذهبت نحو طبع ​العملات​، وزيادة الكتلة النقدية بالليرة، هدفها فقط تأمين مصلحة المصارف، وهدفها إراحة كاهل الدّولة أيضاً كون الدّيون تُشطب، والذي دفع الثّمن هو المودع أولاً، والمواطن بنفس المستوى، وتسببت التعاميم بتضخم مالي وتدني القدرة الشرائية، وفلتان اقتصادي أدّى لركود غير مسبوق، يمكن ملاحظته من خلال تراجع الناتج المحلي اللبناني إلى 18 مليار دولار في أحسن الأحوال".