منذ شهر تموز الماضي، بدأت حكومة ​حسان دياب​ فتح موضوع إجراء محاسبة مالية جنائية في ​مصرف لبنان​، للوقوف بحسب دياب ووزراء معه في الحكومة، على حقيقة حسابات البنك المركزي ومعرفة آليات ​الإنفاق​ التي اتّبعها ويتبعها المصرف. وتالياً، معرفة من استفاد من سياسات المركزي.

ومنذ اللحظة الأولى لمباشرة الحكومة المستقيلة سيرَها في موضوع التدقيق الجنائي، والطلب رسمياً من وزير المال غازي وزني التعاقد مع شركة دُولية متخصصة بالتدقيق المالي الجنائي، بدأت الحرب على حكومة حسان دياب لاسقاط توجه الحكومة، فتم إسقاط اسم شركة "كرول" من سوق التداول، بوصفها شركة مرشحة لإجراء التحقيق الذي يريده ​مجلس الوزراء​، وسقطت هذه الشركة بضربة قاضية، من خلال توجيه بعض القوى السياسية تهماً للشركة مثل علاقتها بالعدو الصهيوني وما شابه ذلك.

ومنذ شهر تموز الماضي "يوم إلقاء القبض على كرول"، استمر وزير المال في عملية البحث عن شركة بديلة، وقد امتدّت هذه الفترة من تموز حتى أيلول الماضي، حتى وقع الاختيار على شركة "ألفاريز آند مارسال"، ومقرها ​الولايات المتحدة الأميركية​. وبعد مفاوضات بين الشركة و​وزارة المالية​، أعلنت الأخيرة بتاريخ 9 أيلول 2020، إطلاق المرحلة الأولى من التدقيق الجنائي، مع الإشارة إلى أن الخطوة الأولى تتضمن قائمة أولويات بالمعلومات المطلوبة من مصرف لبنان، لتمكين الشركة من مباشرة مهمتها.

المفاجأة جاءت سريعة وقاضية، فمصرف لبنان ليس بمقدوره تسليم كل المعلومات المطلوبة من "ألفاريز" لإنجاز مهمتها، لكون أكثر من 50% من المعلومات المطلوبة تتعارض مع قانون ​السرية المصرفية​ وقانون النقد والتسليف. هكذا وبفعل فاعل، ضربت "ألفاريز" من بيت أبيها، حيث من فاوض ووقع عقد الاتفاقية مع الشركة المعنية، كان على علم، أو أقله لإبعاد سوء النية، أن يكون عالما باستحالة تنفيذ العقد بوجود السرية المصرفية.

أمام صعوبات العمل التي رميت في وجه شركة التدقيق العالمية لأكثر من الشهرين من الزّمن، أبلغت "ألفاريز آند مارسال" وزارة المال انسحابها من الاتفاقية الموقعة معها، لاستحالة إنجاز المهمة بحسب تأكيدها.

ومع سقوط "ألفاريز" وبغياب وجود حكومة بصلاحيات مكتملة، تعود قضية التحقيق المالي الجنائي في مصرف لبنان إلى مربعها الأول، بانتظار تشكيل الحكومة العتيدة المنتظرة برئاسة ​سعد الحريري​، المعارض الأكبر لهذا التحقيق، أو بصورة أدق الذي يربط موافقته على مثل هذا التحقيق بتوسيع أرضيته ليشمل كل إدارات ومؤسسات الدّولة.

بعضُ الجهات السياسية والمالية، لا تخفي حقيقة ما يجري اليوم في ساحة معركة التحقيق الجنائي، وترصد قوى سياسية ومالية ومصرفية واسعة وصاحبة نفوذ سياسي مؤثر ترفض التحقيق المالي والجنائي من أساسه، إذ تعتبر أن من يطرح هذا الموضوع ويدعمه إنما يفعل ذلك لتشوية صورة معارضيه في السياسية.

لذلك تقول الجهات المعنية، إن الفريق الذي يعتبر نفسه مستهدفا في أساس التحقيق المالي الجنائي في مصرف لبنان، يرد على هذا الطرح بطرح أشمل وأوسع لضرب مصداقية الفريق الأول، فيدعوا إلى تحقيق مالي جنائي يشمل كل إدارات ​القطاع العام​.

وتختم الجهات المعنية لتصل إلى نتيجة حاسمة مفادها بين من يطالب بالتحقيق الجنائي حصراً وبين من يطالب بتوسيع مفاعيل وساحات المساءلة، سيسقط التحقيق نهائياً ليصبح من أحلام الماضي، فنحن اعتدنا على الهدم لا على البناء!

أخيراً، لابد من الإشارة إلى أن "​صندوق النقد الدولي​" الذي يُعوِل لبنان على تلقي الدعم منه، سبق له أن شدد على ضرورة مراجعة ميزانية مصرف لبنان، من خلال عملية تدقيق مالي ومحاسبي لتقييم تمويل المصرف للحكومة وسياسة الهندسة المالية التي كان ينتهِجُها، وهما عنصران مُهمَّان لفهم الخسائر المتكبدة في السابق.