بحث الاجتماع المالي في بعبدا برئاسة ​رئيس الجمهورية ميشال عون​ الأرقام والمبالغ الواردة في التقارير الصادرة عن وزارة المال و​مصرف لبنان​، والتي يتم الارتكاز عليها خلال المفاوضات الجارية بين فريق عمل وزارة المال و"​صندوق النقد الدولي​"، انطلاقا من خطة التعافي التي أقرتها الحكومة.

وفي الإجتماع الذي حضره رئيس الحكومة ​حسان دياب​ و​وزير المال​ غازي وزني وحاكم "مصرف لبنان" رياض سلامه ومدير عام وزارة المالية ​آلان بيفاني​، تم الإتفاق على الزامية بت الأرقام وفقاً لمقاربة واحدة.

ويأتي هذا الإجتماع في الوقت الذي ينتظر اللبنانيون فيه تأثير دعم "مصرف لبنان" للسلة الغذائية مؤخراً بالإضافة الى ترقّب إطلاق المنصّة الإلكترونية لتحديد سعر الصرف، والتي لا زلنا لا نعلم إن كانت ستؤدي لانخفاض السعر، أو أن لجم الإرتفاع المستمر يعتمد على مساعدات "صندوق النقد"، والذي من غير المعلوم أيضاً ان كان لبنان سيحصل عليها أم لا، وإن حصل عليها هل سيحصل على الرقم المطلوب من قبل ​الحكومة اللبنانية​؟

لمعرفة المزيد حول هذه المواضيع وغيرها، كان لـ"الإقتصاد" هذا اللقاء مع كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث لدى "​بنك عودة​"، د. ​مروان بركات​:

- أين أصبح موضوع المنصة الالكترونية لتحديد سعر الصرف في السوق، وهل سيكون تأثيرها ملحوظا على السعر؟

لا شك أنّ إطلاق المنصة الالكترونية من قبل مصرف لبنان أصبح على قاب قوسين أو أدنى، كما أصبح يشكل حاجة ملحة وضرورية في ظل الفوضى التي عمّت ​السوق السوداء​ والفروقات في أسعار صرف ​الدولار​ بين الصرافين المرخصين و​المصارف​ والتحاويل النقدية الالكترونية عبر المؤسسات غير المصرفية في الآونة الأخيرة. وتكتسب هذه المنصة أهمية لكونها ستصدر يومياً سعراً موّحداً لصرف الدولار يشمل الصرافين و​القطاع المصرفي​، ما سيسهم في تعزيز عامل الشفافية في التعاملات وخفض الضغوط نسبياً على ​الليرة اللبنانية​ واحتواء التقلبات. في هذا السياق، يجدر الذكر أن أولى المساعي لإصدار سعر موّحد لصرف الدولار بدأت تظهر في سوق الصيرفة بعد أن فكّ الصرافون المرخصون إضرابهم في 3 حزيران وبدأوا بإصدار سعر صرف يومي للدولار بهامش متحرك يفرض الالتزام به بشكل حازم. ومع إطلاق المنصة الالكترونية قريباً سيجري توحيد ​سعر صرف الدولار​ داخل القطاع المالي عموماً وسيتم إلغاء الفروقات فيما بينها. إلا أن هذه الإجراءات تبقى مرحلية الأبعاد. أما على المدى المتوسط والطويل، فيبقى العامل الأهم للجم التدهور النقدي هو احتواء العجوزات في ميزان المدفوعات وإصلاحات الدولة لخفض عجوزاتها وحاجاتها التمويلية.

- ما هي توقعاتك للفترة المقبلة في حال لم يقدّم "صندوق النقد الدولي" للحكومة المبلغ الذي طلبته؟

أصبح هناك حاجة حقيقية للتوصل إلى برنامج ​إنقاذ​ شامل ينخرط فيه الصندوق من أجل إعطاء مصداقية للمساعي الإصلاحية المطروحة وتعزيز القدرة على استقطاب ​المساعدات​ المرجوّة من الخارج والتي تقدّر بأقل تقدير بحوالي 10 مليار دولار، وإلا سيغرق لبنان في المجهول. إذ لا يمكن أن يتحقق الهبوط الاقتصادي الآمن في لبنان من دون المساعدات الخارجيةنظراً إلى الثغرات التمويلية الكبيرة التي أصبح لبنان يعاني منها اليوم ودور صندوق النقد بشكل خاص محوري كونه الضمانة الأساسية للحكومة لتنفيذ الإصلاحات الموعودة والذي يشكل ضمانة للدول المانحة بشكل عام. يجدر الذكر أن لبنان يحاول الحصول على 10 أضعاف حصته في صندوق النقد الدولي والمقدرة بـ880 مليون دولار، مما قد يعوّل عليه لتحرير جزء منمساعدات مؤتمر CEDRE.

في المقابل، يطالب صندوق النقد الدولي بتحرير فوري لسعر الصرف الرسمي لأي خطة يتم التصديق عليها من قبل البرلمان. إن موضوع تخفيض سعر الصرف قد ينجم عنه بعض التعقيدات في المفاوضات ما بين صندوق النقد والحكومة. نحن نأمل بأن يكون هنالك تسوية في موضوع تصحيح سعر الصرف الرسمي بشكل يرضى عنها صندوق النقد بحيث يكون تدريجياً مع الوقت وليس دفعة واحدة. هذا يعني أنه نظراً للمضاعفات السلبية لهذا الأمر على المستوى المعيشي، إنا نجد أنه من الأنسب تغيير سعر الصرف بصورة تدريجية، كما ينبغي ألا يكون هناك تخلف عن ​سداد الديون​ المحلية أوHaircut على ​سندات الخزينة​ بالليرة كما هو جليّ من خلال خبرات أكثر من 30 دولة مرّت بأوضاع مماثلة للبنان ولم تلجأ إلى التعثّر الداخلي (Internal Default).

- ما هي الخيارات المطروحة أمام الدولة لتفادي اللجوء إلى أموال المودعين أو حتى البنوك؟

يجب أن تعمل الدولة على استعادة الاستقرار والثقة بالاقتصاد وبالنظام المالي بلبنان والتي تشكل المصارف جزءاً لا يتجزأ منه. ولهذه الغاية، ينبغي على الحكومة في خطتها أن تحافظ على حدّ أدنى من رأسمال القطاع المصرفي كما عليها حماية المودعين والذي يشكلون العمود الفقري لأي قطاع مصرفي.

نحن نعتقد أنه من غير المنصف تحميل المصارف والمودعين كامل كلفة سوء الإدارة العامة لسنوات طويلة، فلابد أن يكون هناك توزيع عادل للأعباء حيث ينبغي على الدولة استخدام العديد من الوسائل لكي تحمل حصة ملحوظة من هذه الخسائر، كخصخصة المؤسسات العامة أو تحويل جزء من أصول الدولة إلى صندوق سيادي خاص ليصار إلى مقايضة تلك الأصول مع دين مصرف لبنان على الدولة. من هنا، نرحب بطرح ​جمعية المصارف​ بإنشاء Government debt defeasance fund لإلغاء ذمم مصرف لبنان على الدولة وهو ضرورة لاستعادة الثقة بالنظام المالي بشكل عام.

فقبل التطرّق إلى إجراءات اقتطاع تطال المودعين والدائنين، فإن ​القطاع العام​ لا يزال لديه موجودات قابلة للتصفية والبيع وحجم وافر من الأملاك و​العقارات​ والمؤسسات القابلة للخصخصة. علماً أن هذه الموجودات تغطي قسم كبير من المطلوبات عند تقييم صافي الموجودات Net Asset Value (NAV)، فالمطلوب هنا اللجوء إلى هذه الموجودات وإيفاء الذمم المترتّبة على ​الدولة اللبنانية​ قبل الكلام عن أي إجراءات تطال المودعين والمصارف.

إن القطاع المصرفي جاهز للمشاركة في قسط من الخسائر، لكن لا يمكنتحميله كامل الخسائر. هناك مجدّداً ضرورة للحفاظ على حدّ أدنى من رأسمال القطاع المصرفي، لأننا إذا لم نقم بذلك لن يتمكن لبنان من إرساء الاستقرار الاقتصادي الحقيقي وتحقيق النمو المستقبلي.

- ما هي الأولويات الماكرو-اقتصادية التي على لبنان أن يواجهها في المستقبل المنظور؟

نحن نعتقد أن لبنان يواجه خمسة تحديات ماكرو اقتصادية رئيسية ألا وهي:

أولاً، تصحيح القطاع الخارجي مع تفاقم الاختلالات الخارجية، علماً أن النموذجالقائم على استدامة العجز التجاريالملحوظ بالاعتماد على تدفقات الأموال الوافدة لم يعد قابلاً للاستمرار نظراً إلى التراجع الملحوظ في حركة التدفقات المالية. هناك إمكانية لتحقيق توازن في ميزان المدفوعات من خلال تخفيض حجم ​الواردات​ بنسبة 40% وزيادة الصادرات بنسبة 25% وذلك رغم فرضية التراجع في حركة الأموال الوافدة بنسبة تقارب 25% خلال العام الحالي. من هنا أهمية رفع الضرائب على الاستيراد وتحفيز الإنتاج المحلي والتصدير عن طريق دعم القطاعات ذات القيمة المضافة العالية في لبنان.

ثانياً،تصحيح الاختلالات القائمة على صعيد المالية العامةالتيتشكّل عنصر الهشاشة الأبرز حالياً في الاقتصاد الوطني، علماً أن النموذج القائم حول تمويل العجز المالي العام عن طريق نمو الودائع غير قابل للاستدامة. هنالك إمكانية لتعزيز الإيرادات وتحسين الجباية و​خفض الإنفاق​ وخدمة الدين وخصخصة بعض المؤسسات العامة من أجل خفض نسبة الاستدانة.

ثالثاً، تصحيح الوضع النقدي مع التراجع المتوقع في احتياطيات مصرف لبنان في ظلال احتياجات التمويلية الملحوظة بالعملات الأجنبية والتي تناهز على أقل تقدير بما يوازي 10 مليار دولار في السنة. من هنا أهمية المساعدات الخارجية وإرساء برنامج كامل مع صندوق النقد الدولي.

رابعاً، تصحيح الأوضاع المصرفية مع ضرورة توحيد الإجراءات المصرفية ضمن قانون Capital Control يصدر عن السلطة التشريعية بالترافق مع مزيد من التخفيض في معدلات الفوائد.

خامساً، إعادة ​النمو الاقتصادي​ وخلق الوظائف، بعد انتقال الاقتصاد الوطني حالياً من حلقة النمو المنخفض إلى وضعية ​الركود​ التي تؤثر على جميع قطاعات ​النشاط الاقتصادي​. من هنا أهمية تحفيز الاستثمار الخاص الذي له رافعة على النمو الاقتصادي خصوصاً في ظل استحالة تعزيز ​الإنفاق العام​ نظراً لضرورة الإجراءات التقشفية. من هنا أهمية تحفيض النفقات التشغيلية وتحسين معايير مزاولة الأعمال وخفض معدلات الفوائد التي كان لها آثار استبعادية على الاستثمار الخاص خلال العقد المنصرم.

- ما هو رأيك في قانون رفع ​السرية المصرفية​ وتداعيات إقراره والعمل به على الاقتصاد الوطني والقطاع المصرفي؟

لا بدّ من التذكير بدايةً إلى أنه في ظل الاتجاه العالمي لتشدّد الدول خلال العقد المنصرم لاسيما في مكافحة ​تبييض الأموال​ و​تمويل الإرهاب​ و​التهرب الضريبي​، قامت المصارف اللبنانيةبالامتثال التامّ للمعايير الدولية. فامتثلت على سبيل الذكر لا الحصرلقانون FATCA وتنفيذ مضمونه بالتواريخ المحددة حرصاً منها على احترام كافة المتطلبات الدوليةالتي تفرض عدم التعامل مع مؤسسات أو شخصيات تشملها العقوبات.وقد نجح لبنان بقطاعه المصرفي والمالي في إيجاد آليات قانونية لرفع السرّية المصرفية عند الضرورة بهدف منع وقوفه عائقاً أمام تبادل المعلومات.اليوم، ومع إقرار قانون رفع السرية المصرفية في ​مجلس النواب​ والذي يشمل كلّ من يتعاطى الشأن العام وكل ما ينتج عن فساد وتمويل للإرهاب وتبييض للأموال وتمويل للحملات الانتخابية، فإن القطاع المصرفي سيبقى حريصاً على احترام الالتزامات والمعايير المعتمدة من قبل الجهات الرقابية اللبنانية في تعاميمها وتشريعاتها في سبيل تمتين الاستقرار الداخلي للبلاد بشكل عام.