سجلت ​الليرة السورية​ هبوطا جديدا في الاسابيع القليلة الماضية نتيجة استمرار الأزمة السياسية والحرب ، وكذلك غياب ​السياسة النقدية​ القادرة على استيعاب أثر سعر الصرف على ارتفاع ​التضخم​. ومع هذا الهبوط الجديد، ارتفعت شكاوى السوريين من الأسعار المشتعلة في الأسواق في مقابل ضعف القدرة الشرائية وثبات ​الأجور​، ما يؤدي الى ارتفاع حاد في مستويات ​الفقر​ و​البطالة​.

وبلغ سعر ​الدولار​ في المصرف المركزي السوري في الايام الاخيرة الماضية 435 للشراء مقابل 438 ليرة للبيع، أما ​سعر الدولار​ مقابل الليرة السورية في ​السوق السوداء​  فبلغ 606 للشراء مقابل 608 ليرة للبيع، وبالنسبة لسعر ​اليورو​ مقابل الليرة السورية في المصرف المركزي فسجل 489.77 للشراء مقابل 493.21 ليرة للبيع، أما الأسعار في السوق السوداء فتراوح ​سعر اليورو​ ما بين 689 ليرة للشراء مقابل 693 ليرة سوري للبيع.

وتسبب ارتفاع سعر الدولار بارتفاع مماثل لسعر ​الذهب​ فبلغ سعر الغرام الواحد من الذهب 21 قيراط 50 دولارا (20 الف ليرة سورية). وبطبيعة الحال ارتفعت كل ​اسعار السلع​ الاولية واحتياجات المواطنين من ​مواد غذائية​ وغيرها .

المركزي السوري

هذا التطور دفع حاكم المصرف المركزي السوري الى الخروج عن صمته مرتين  خلال 24 ساعة ليتحدث عبر ​التلفزيون​ السوري عن هذا الارتفاع ، واكد حازم قرفول أن الفترة الماضية شهدت ارتفاعات متسارعة في سعر الصرف، قائلاً إن ​الاقتصاد السوري​ لم يشهد تغيرات تبرر الارتفاع المتسارع وغير المنطقي.

وحول وجود سعرين، وتثبيت سعر الصرف الرسمي، وهو ما قوبل بانتقادات قال قرفول إن المركزي يمول المستوردات ومستلزمات الإنتاج، واحتياجات المواطن بالسعر الرسمي المعتمد من المركزي، وبأقل التكاليف.

وحول مبرر وجود السعرين أوضح قرفول: فلنعترف أولاً أن ارتفاع السعر يكون أحياناً بسبب زيادة الطلب، ولكن أيضاً لا نستطيع إغفال عامل المضاربة، لتحقيق مكاسب، وكان المركزي في الفترات الماضية يسارع إلى تحريك النشرة الرسمية ورفع السعر، أو القيام بضخ عشرات ومئات الملايين من الدولارات، واليوم لدى المصرف المركزي سياسة مختلفة وهي أن موارد الدولة من القطع الأجنبي في خدمة تأمين احتياجات المواطن، وتخفيض تكاليف الإنتاج.

ودافع قرفول عن سياسة تثبيت السعر الرسمي (عند 435 ليرة للدولار) رغم الفارق الكبير مع السعر الموازي (الذي تجاوز 600 ليرة منذ أيام)، وأعاد التشديد على أن المصرف معني أساساً بتأمين احتياجات المواطن عبر ذلك السعر، وقال إن المركزي غير معني بلعبة الاستدراج التي يقودها البعض لاستنزاف قدرات الاقتصاد الوطني.

وأشار قرفول إلى أن سعر الصرف في النهاية يعكس الحالة الاقتصادية بشكل عام، ولا يتحمل المركزي فقط المسؤولية ، مشيرا الى ان  ارتفاع أسعار الصرف يأتي ضمن "حملة ممنهجة" لإضعاف ​سوريا​ واقتصادها، وزعزعة الثقة بالمصرف المركزي وإجراءاته.

وقال : إن هذه الحملة تترافق مع قانون العقوبات الأميركي (سيزر)، وأكد أن ارتفاع الدولار وهمي وليس له أي مبرر اقتصادي على الأرض.

ازمات جديدة

ورد خبراء اسباب الهبوط الاخير لليرة السورية الى ازمة جديدة تضاف الى سلسلة ازمات تحاصر سوريا ، وهي الازمة الاميركية – الايرانية فقد أدت المخاوف من اندلاع حرب كبرى في المنطقة ، الى ازدياد تهافت السوريين على الدولار و​العملات​ الاجنبية الاخرى والذهب ، للحفاظ على قيمة مدخراتهم ، ما انعش سوق المضاربة والسوق السوداء.

سبب آخر هو البدء بتنفيذ قانون "سيزر"  الذي أقره ​مجلس النواب الأميركي​ بالإجماع  تحت عنوان "قانون حماية المدنيين" وينص على فرض عقوبات على ​الحكومة السورية​ والدول التي تدعمها مثل ​إيران​ و​روسيا​ لمدة 10 سنوات أخرى  في مجالات ​الطاقة​ والأعمال و​النقل الجوي​.

وبموجب هذا القانون تفرض عقوبات جديدة على أي شخص أو جهة يتعامل مع الحكومة السورية أو يوفر لها التمويل، بما في  ذلك المصرف المركزي السوري.

وزيرة الاقتصاد السوري السابقة ، لمياء عاصي، قالت إنه بغض النظر عن أسباب ارتفاع أسعار الصرف سواء أكانت أسباب سياسية أم اقتصادية، إلا أن النتيجة المؤكدة هي انخفاض القدرة الشرائية للمواطن وسقوطه على قارعة الفقر المدقع.

وأضافت : أن صمت الحكومة غالبًا ما يكون بسبب العجز، معتبرة أن عدم استقرار سعر صرف العملات الأجنبية مقابل العملة الوطنية، هو علامة أزمة اقتصادية عميقة تؤثر على الصناعة والزراعة وكل مناحي الحياة.

اما ​حاكم البنك المركزي​ السوري السابق ​دريد درغام​ فدافع عن سياسة تخفيض سعر الصرف قسريًا، بالقول إن سوريا جربت خلال سنوات الحرب تخفيض ​سعر صرف الدولار​ قسريًا 200 ليرة مرتين، لكن في كلتا الحالتين لم يستقر سعر الصرف إلا لأيام قليلة.

وأكد درغام أن الأهم من تخفيض سعر الصرف هو استقراره في مستويات تناسب الأدوات والمعطيات المتاحة حسب الظروف.

وأشار إلى أن سعر الصرف يرتبط بواقع السوق وبالسياسات الاقتصادية والمالية والنقدية والظروف المحيطة.

لا احتياط

ويقول الخبراء ان قدرة المركزي السوري على تثبيت سعر الصرف صارت شبه معدومة، حيث تم تبديد الاحتياطي النقدي، ليتآكل من نحو 18 مليار دولار عام 2011 إلى أقل من 700 مليون اليوم.

ولا يزال الاقتصاد السوري مشلولا والصادرات محدودة، ومع عودة بعض ​الإنتاج الصناعي​ والسماح لبعض شركات ​القطاع الخاص​ ب​استيراد​ ​النفط​ ، تراجع عرض القطع الأجنبي في السوق السورية، من اجل استيراد المواد الأولية للصناعة، بعدما انسحب البنك المركزي من عمليات تمويل المستوردات، ما دفع الصناعيين و​التجار​ لشراء العملة الأجنبية من السوق السوداء.

ويضاف إلى ذلك تم الطلب ممن اشترى العملات الأجنبية منذ خمسة أعوام لمراجعة البنك المركزي من أجل تقديم إجازات استيراد وتقديم بيانات تُوضح كيف تمّ استخدام هذه المبالغ، مما اضطرّ غالبية التجار والمستوردين لشراء الدولار من السوق السوداء بكميات كبيرة من أجل حصولهم على إجازات الاستيراد. 

هذا الواقع خلق تخوفاً من زيادة تكاليف الإنتاج، وهو ما سيحصل فعلاً، إذ من المرتقب ازدياد التضخم وتراجع القدرة الشرائية إثر تحوّل رأس المال السائل إلى منتجات مخزنة، ما سيوصل إلى مزيد من ​الركود الاقتصادي​.

وتأتي ​العقوبات الأميركية​ والأوروبية، برأي مراقبين، عاملاً إضافياً، ساهم بتدهور سعر الليرة. إذ وسع الاتحاد الأوروبي في الاشهر الاخيرة، قائمة العقوبات على سوريا، لتشمل 11 شخصاً و5 منظمات ، هذا بالاضافة الى قانون سيزر الاميركي سالف الذكر.

إضافة لكل ما سبق من أسباب، ثمة مضاربات نشطت في السوق السورية أخيراً، من جراء تفاوت أسعار العملات الأجنبية بين المصرف المركزي والسوق السوداء حيث يزيد سعر الصرف عن مئة ليرة للدولار الواحد، ما يحقق أرباحاً فورية كبيرة للمضاربين.

وقد ساهم في تعميق الازمة تراجع ​الحوالات​ الخارجية إلى سوريا، بنحو 4.5 ملايين دولار يومياً، بسبب الازمات الاقتصادية والمالية في البلدان التي ينتشر فيها السوريون في مختلف انحاء العالم .

مسار التدهور

وبدأ تهاوي سعر الليرة، مع اندلاع ​الازمة السورية​ عام 2011، حينها لم يزد سعر صرف الدولار يومهاعن 45 ليرة. ولكن أخذت الليرة مع نهاية كل عام تستنزف من قيمتها، لتسجل نهاية عام 2012 نحو 97 ليرة للدولار. 

وانطلقت التراجعات الكبيرة منذ عام 2013، حين وصل سعر صرف الدولار في  آذار إلى نحو 120 ليرة وتجاوز سعر الدولار 300 ليرة بنهاية العام ذاته. 

تعافت الليرة قليلاً عام 2014، فتراوح سعر الصرف بين 170 ليرة منتصف العام و220 ليرة نهاية 2014، لتعاود حركة التراجع في عام 2015، ليصل سعر صرفها إلى 380 ليرة للدولار الواحد. وبلغت الليرة أسوأ سعر لها على الإطلاق، عام 2016 وقت هوت إلى ما دون 645 ليرة للدولار الواحد. 

ثم عاد سعر الليرة إلى التحسن منذ عام 2017، بالمقارنة مع السعر الذي تم تسجيله في العام الذي سبقه، منخفضاً عن الـ 600 ليرة، ولكنه سجل ثاني أعلى سعر على الإطلاق في  نيسان 2017 عند 559 ليرة، ثم تراجع إلى 460 ليرة في نهاية العام. 

وفي العام 2018 عاد السعر للتذبذب، ليحوم حول 500 ليرة في نهايته. وهذا العام 2019 تاثرت الليرة كثيرا بالضغوط الخارجية وبواقع عدم قدرة المصرف المركزي على التدخل لفرض السعر الرسمي للدولار وغيره ، فشهدنا انهيار الليرة الى حدود 625 ليرة للدولار الواحد.

بعد ثمانية سنوات من الحرب والازمات لا يبدو مسار الانحدار سيتوقف وخصوصا مع غياب اي بوادر فعلية للحل السياسي  وانهاء الحرب ، تمهيدا لاطلاق عملية اعادة الاعمار والتي تتطلب بدورها تمويلا ضخما لن يتوفر الى وفقا لطبيعة الحل السياسي وموافقة القوى الرئيسية المعنية بالازمة السورية .

وفي الانتظار تعاني مختلف القطاعات مثل الزراعة والصناعة والخدمات من تقلبات حادة صعودا وهبوطا ، فيحول عدم الاستقرار الاستقرار الاقتصادي ، ناهيك عن غياب النمو ، في تدهور سعر الصرف الليرة السورية باستمرار.