اختتم "المنتدى العربي للبيئة والتنمية" مؤتمره السنوي الحادي عشر عن "تمويل ​التنمية المستدامة​ في البلدان العربية"، الذي عقد يومي 8 و9 تشرين الثاني الجاري 2018 في فندق بريستول في بيروت.

وجاء في التوصيات الالتزام بتحقيق أهداف التنمية المستدامة الذي يتطلب استثمارات ضخمة، والتي تحتاج بدورها إلى آليات تمويل مبتكرة. ونظرا إلى أن الحكومات وحدها لا تستطيع تلبية كل الاحتياجات، فإن منظمات العون وصناديق التنمية والشركات والقطاع ال​مصر​في مدعوة في شكل متزايد إلى المساهمة.

وشدد المؤتمر على وضع القوانين والتشريعات الضرورية لاجتذاب المساعدات و​الاستثمارات​، ووضع حد للفساد والهدر. كما أوصى بوضع استراتيجيات وخطط متكاملة واقعية وقابلة للتنفيذ، مع تحديد أولويات واضحة ومتسلسلة لأهداف التنمية المستدامة على المستوى المحلي، وفقا لجدول زمني محدد للتنفيذ.

هذه التوصيات أجمل من أن نصدقها ، فهي لازمة تتكرر كل عام ومع كل مؤتمر جديد ، يختلف المتحدثون ، ويختلف المكان ، الا ان الكلام نفسه يتكرر ، ويبقى حبرا على ورق .ففي العام الماضي خلص المؤتمر نفسه الى ان ​مكافحة الفساد​ وتوفير المليارات المهدورة كفيلة وحدها بتمويل كل مشاريع التنمية المستدامة في المنطقة العربية ، هذا عدا عن مصادر التمويل الاخرى .

وفي الوقت الذي كانت هذه التوصيات تصدر ، ويعود المؤتمرون الى بلادهم ، مطمئنين ومرتاحي الضمير ، خرج تقرير صادم من ​الولايات المتحدة الاميركية​ ، يتحدث عن كلفة ​الحروب​ في المنطقة العربية منذ 15عاما . والرقم المخصص للعراق وحده ، والواقعي جدا ، يفوق الخيال اذ بلغت تكاليف الحروب هناك منذ الغزو الاميركي عام 2003 ، وحتى المعركة الاخيرة ضد "​داعش​" ، تريليون و705 مليارات و856 مليون دولار.

ولكن هذه المسألة ليست مجال بحثنا هنا ، لانها كانت حربا خارجية ضد بلد عربي ، سعت الولايات المتحدة الاميركية من خلالها بسط نفوذها الاستراتجي . أما الرقم الذي يعنينا فهو كلفة ما يسمى ​الربيع العربي​ ، والتي بلغت 830 مليار دولار ،من دون احتساب خسائر التدمير الكلي او الجزئي لتونس و​ليبيا​ ومصر و​اليمن​ و​العراق​ و​سوريا​ ، والتي اذا اضيفت ستبلغ بالتأكيد تريليونات الدولارات .

العرب يبحثون عن مصادر تمويل خطط التنمية المستدامة ، وهم يستنزفون اموالهم ، والادق القول ، يحرقونها ، في حروب داخلية لم ولن تؤدي الى اي تغيير باتجاه الافضل ، اي تعزيز الديمقراطية وحكم دولة القانون .

العرب يحاربون العرب في اليمن ويدمرون البلاد ، والعرب يحاربون العرب في سوريا ويدمرون سوريا ، والعرب يحاربون العرب في ليبيا ويدمرون ليبيا ، والعرب يحاربون العرب في العراق ويدمرون العراق. ومع أن الإرهابيين يشنون حربهم على الإنسانية باسم الإسلام فإن 70% من ضحاياهم مسلمون.

هذا ما خلصت اليه جريدة "نيويروك تايمز" المرموقة مذكرة بما يسمى عصر الانحطاط العربي.

والاسوأ أنه لا توجد أية مؤشرات على أن هناك مستقبلاً عربياً أفضل ، فمعظم الجروح العربية نازفة وملتهبة وتستعصي على الشفاء ، وأي مستقبل لمجتمعات لم تعد تعتبر نفسها مجتمعات وطنية بل مكونات اجتماعية ، تنقسم على أساس الدين أو المذهب أو الطائفة أو العرق.

هذا في السياسة، ماذا عن الاقتصاد ؟

ثمة علاقة جدلية بين الانفاق على التسلح وبين التنمية ، فعندما يكون التسلح للدفاع عن السيادة او تحرير الارض واستعادة الثروات المسلوبة ، فانه يشكل عاملا من عوامل التنمية ، ولكن الانفاق العربي على الحروب الداخلية ، هو تدمير بحت لكل فرص التنمية .

وهنا يمكن التمييز بين فئتين من ​الدول العربية​ ، الاولى التي تمول الحروب خارج ارضها ، والثانية ، تلك التي تشهد الحروب.

بالنسبة للفئة الاولى ، فان زيادة الإنفاق العسكري ، وفقا لدراسة المانية تعود للعام 2002 ، بنسبة 1% فقط من إجمالي ​الناتج المحلي​ لبلد ما، يمكن أن تؤدي خلال خمس سنوات إلى تراجع قدرات الإقتصاد الوطني بنسبة 0,7 % ، وغالبا ما تكون التنمية اولى الضحايا ، فضلاً عن ذلك، فإن الإنفاق العسكري يؤدي إلى اقتطاع قسم كبير جداً من الموارد المتاحة، خصوصاً في البلدان النامية، والتي يمكن أن تخصَّص للإنفاق على القطاعات الإقتصادية المنتجة وعلى تطوير البنى التحتية المادية والإجتماعية، بما يؤدي إلى دفع عملية "تنويع الإقتصاد" قدماً، أي توسيع قاعدته وتنويع بنيته الإنتاجية، والخروج من دائرة الإقتصاد الأحادي الجانب، القائم أساساً على ​قطاع النفط​ و​الغاز​ وانتاج المواد الأولية، أو الصناعات الخفيفة في بلدان أخرى، وإلى حد ما على الخدمات في حالات معيَّنة. وهذا ما تحاول ​دول الخليج​ العربي فعله ، من دون نجاح يذكر حتى الآن.

كما أن الانفاق العسكري يحرم المجتمع من جزء من الثروة الوطنية يمكن أن يُنْفَق في مجالات تطوير النظام التعليمي وتحسين الرعاية الصحية للمواطنين ، وهي من المقومات الاساسية للتنمية .

اما بالنسبة للفئة الثانية من الدول ، اي تلك التي تخاض الحروب على اراضيها ، فالنتائج اكثر كارثية ، بطبيعة الحال.

فالنزاعات والحروب في بلدان مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا ، ادت الى تدمير المجتمعات، فالحروب الأهلية تؤدي الى تراجع نمو ​الناتج المحلي الاجمالي​ بنسبة 2% عن كل سنة من سنوات النزاع، ما يجعلها أكثر فتكاً من الحروب بين الدول، وقد نظرت دراسة Cerra & Saxena في 2008، في مجموعة متنوعة من الأزمات السياسية والمالية فتبين أن الانتاج ينخفض بنسبة 6% في البداية كمتوسط خلال الحروب الأهلية، ويمكن تعويض نصف الخسارة بعد أربعة أعوام، ولكن تبقى 3% من الخسائر التراكمية حتى بعد مرور عقد من الزمن، اما دراسة Mueller في 2012 فتقديراتها أكثر شدة، اذ بينت أن الناتج يتراجع بحوالي 18% في البداية كمعدل.

وتوصلت دراسة Murdoch & Sandler في عامي 2002 و2004، الى نتائج متشابهة من حيث حجم الاثار، كما أنها بينت ايضاً وجود آثار سلبية للحروب الأهلية على النمو في الدول المجاورة، اما دراسة Blomberg & Hess في 2002، فقد أوضحت أن الركود يمكن أن يزيد خطر النزاعات الداخلية والخارجية، مايؤدي بدوره الى زيادة احتمال حدوث انتكاسات اقتصادية جديدة، وترى دراسات عديدة أن العنف السياسي يحد من حركة التجارة الدولية ، مايؤدي الى تراجع ​النمو الاقتصادي​.

وتصنف دراسة Collier في 1999، كيفية تأثير النزاعات على التنمية من خلال التدمير، التعطيل، وتحول وجهة الأموال العامة والاسراف في الأنفاق، فالحرب تدمر مرافق الانتاج والمرافق الصحية وتخفض حالات الوفاة والتشوه الناتجة عن الحروب عدد الايدي العاملة، ويعيق تدمير طرق النقل التبادل الاقتصادي ويزيد من تكاليف النقل، وينتج التعطيل من انعدام الأمن بسبب انتشار العنف وانهيار النظام الاجتماعي ومن تبعات هروب السكان بأعداد كبيرة من منازلهم وأشغالهم.

كما تؤدي الحروب الأهلية الى تحويل أموال عامة كبيرة الى الانفاق العسكري، وتعاني اقتصادات الحرب من الاسراف في الانفاق ومن هروب رؤوس الاموال، وتنتج الاثار السلبية على رأس المال عن تدمير البنى الأساسية وارتفاع تكاليف المعاملات، فالقدرة على تنفيذ العقود تتراجع عندما تضعف مؤسسات المجتمع المدني، وتتراجع الثقة وتتقلص الآفاق الزمنية بسبب انعدام الثقة، وتصبح الانتهازية الوسيلة للحصول على الارباح، وتركز دراسة Davies في 2008، على هروب رؤوس الاموال، اذ تؤكد بأن حجم رؤوس الاموال الهاربة يزداد في الدول خلال النزاع وبعد، ويرافق ذلك معدلات تضخم مرتفعة، ويكون تمويل الحرب مكلف جداً، ويكون في الأغلب عن طريق الاستدانة من الخارج، فضلاً عن أنه قد يؤدي تمويل الحروب على المدى القصير الى ​التضخم​، كما تتعطل حركة التجارة العامة.

التنمية وترف التنظير

ازاء هذا الواقع ، كيف يمكن الحديث عن تنمية عربية مستدامة من قبل انظمة تدمر البلاد وتقتل العباد وتحرق الثروات في صراع البقاء في السلطة ، او من اجل اسقاط سلطات منافسة ، لاسباب سياسية وعقائدية ، لا تمت بصلة الى المصالح الوطنية للدول ، واهمها ، المصلحة في بناء اقتصادات قوية ، تتكامل فيها قوى الانتاج ، وتستثمر الثروات بافضل شكل ، في ظل نظام قائم على الشفافية في الحوكمة ، يمنع هدر المال العام بمكافحة الفساد .

وبالحديث عن الفساد فان للحروب امراءها، وهؤلاء يقيمون اقتصادا موازيا على هامش الاقتصاد الوطني وعلى حسابه، قائم على الرشاوى وشراء النفوذ ، وينشئون شبكة متكاملة من العلاقات والخدمات، كما انهم يسيطرون على مرافق عامة وخاصة ، فلا يبقى الفساد مجرد ظاهرة وانما يصير جسما سرطانيا قائما بذاته .

الحديث عن التنمية جميل ، ولكنه مجرد تنظير في الوقت الضائع، على وقع المدافع ، فالاولوية بالنسبة للعرب ، هي لوقف الحروب الداخلية ، وهذا شرط حيوي ومصيري للبقاء اولا ، ومن ثم يأتي البحث في اعادة بناء الاقتصادات العربية ، في الدول المتورطة في النزاعات ، مباشرة او غير مباشرة ، وتكون التنمية وسبلها في رأس جدول اعمال مرحلة السلم الاهلي.