من الواضح أن التعاطي بالشأن السياسي في لبنان ما زال يتبعّ الأساليب القديمة التي كان يُمارسها أبطال الأساطير. والأصعب أن الشعب يتعطّش لمواقف بطولية مع ما لها من خسائر إقتصادية ومالية على المُجتمع. لكن بالنظرّ إلى الأسلوب المُتبع في الولايات المُتحدة الأميركية، نرى أن هناك دمج للمعايير الإقتصادية في القرار السياسي على كلّ المستويات مما يؤدّي إلى نتائج إيجابية هائلة على الصعيدين الإقتصادي والسياسي.

لمحة تاريخية...

من أشهر النظريات التي إجتاحت العالم السياسي هي نظرية "الحقّ الإلهي المُباشر" والتي تنصّ على أن الله (سبحانه وتعالى) هو من يختار الشخص الذي له الحقّ في الحكم. وبالتالي فإن سلّطة هذا الشخصّ مُستمدّة من الله مما يفرض على الشعب الطاعة لهذا الحاكم الذي تُعتبر قراراته صائبة في كلّ الأوقات وتصبّ في مصلحة المواطن والمُجتمع.

تعاليم الأديان السماوية تتبع هذا النهج وبالتالي أخذت مُجتمعات هذه الأديان تُطبّق هذه النظرية مع تفاوت في الأساليب مما أدّى إلى خلق مفهوم أخر وهو نظرية " الحقّ الإلهي غير المُباشر". وتنصّ هذه النظرية على أن الله لا يختار مباشرة الشخص الذي يحكم بل أن العناية الإلهية تُنظّم الأحداث بطريقة أن هذا الشخص يصلّ إلى الحكم بواسطة الشعب وخياراته. وأهمية هذه النظرية تأتي من منطلق الحدّ من الإفراط بالسلطة التي يتمتّع بها الشخص المُختار مباشرة من الله وبالتالي تتسعّ فكرة الإدارة العامّة لتشملّ الشعب من خلال خياراته.

ومن أبرز مميزات هاذين المفهومين أن للدولة فيهما رسالة أخلاقية سامية وأن الدين عامل أساسي ومهم في تطور الدولة من الناحية السياسية. لكن مُقابل هذه الميزات، هناك سلبيات منها أن هذه النظريات لا تنطبق على المُجتمعات حيث العلم والفكر بل تنطبق على العصور القديمة، الشخص الحاكم يُنفّذ مصالحه الخاصة قبل الصالح العام مدعومًا بفكرة أن الحاكم هو خيار إلهي، إفراط في السلطة من قبل الحاكم...

العلاقة بين الشعب والحاكم إحتلّت مكانًا واسعًا في البحث العلمي حيث ظهر إلى العلن العديد من النظريات التي كان محورها الخوف من الحاكم. وهناك عشرات الأقوال التي تُجسّد هذه النظريات مثل "إن حب شخص نخشاه، أسهل من الخوف من شخص نُحبه" (تبرير الإستبداد والطغيان). بالطبع شهدت المُجتمعات ولا زالت نوع من التأليه للحاكم حيث يقوم الشعب بتفيذ القرارات دون حق الإعتراض بداعي الخوّف بالدرجة الأولى.

الثورات التي إجتاحت كل دوّل العالم تقريبًا أتت نتاج الإستبداد في السلطة ولكن أيضًا الضيقة الإقتصادية التي يعيشها الشعب. وبالتالي ظهر إلى العلن محدودية هذه النظريات في إختيار الحاكم مما دفع المُجتمعات إلى التطوّر السياسي حيث كانت المُجتمعات الغربية الأكثر تقدّمًا في هذا المظمار. وأصبح خيار المواطن في هذه المُجتمعات يطال القرارات السياسية، كل قرار على حدى على مثال البرامج الإنتخابية والإستفتاءات على مواضيع مُحدّدة.

السياسة في الولايات المُتحدة الأميركية...

لعب الطهرويون (المهاجرون الأوائل إلى ​الولايات المتحدة​ الأميركية) دورًا أساسيًا في صقل الفكر الأميركي ونهج التفكير السياسي مما أدّى إلى بناء نظام سياسي – إجتماعي – ديني يتوافق وهذا الفكر. وأسّسوا لسياسات راسخة منبعها أيدولوجيات ثابتة تنصّ على أن على الولايات المُتحدّة الأميركية الخروج من قيود الجغرافية والتوسّع فكريًا وإقتصاديًا وماليًا.

هذا الأمرّ تمّت ترجمته بإنصراف المجتمع بكل فئاته إلى خلق مشاريع إنتاجية وبناء مؤسسات ذات ربحية. وتمّ التأسيس لمرتكزات بنية إقتصادية متينة ومؤسسات سياسية هدفها الأساسي ضبط الأداء السياسي للمُجتمع. وبالتالي أصبحت الولايات المُتحدة الأميركية ما هي عليه اليوم، قوّة عُظمى بإقتصاد يوازي ربع ​الإقتصاد العالمي​.

ويبقى السؤال، كيف نجحت السياسة الأميركية بالوصول إلى هذا النجاح الإقتصادي؟ الجواب بكل بساطة نابع من مُنطلق دمج المعايير الإقتصادية في القرارات السياسية حيث أن كلّ قرار سياسي مهما كان حجمه (داخلي أو دوّلي) لا يتمّ أخذه من دون دراسة السيناريوهات والجدوى الإقتصادية لكل سيناريو. وقد يظنّ القارئ أن بعض القرارات السياسية ليست بحاجة إلى دراسات إقتصادية، وهذا خطأ لأن كل قرار سياسي مهما كان نوعه له تداعيات إقتصادية حتمية.

على الصعيد اللبناني، تبقى القرارات السياسية نتاج مواقف سياسية بحتة لا تربطها بالجدوى الإقتصادية أي علاقة. وهذا الأمر ناتج عن فوقية مبدأ "الديموقراطية التوافقية" التي لا تُعطي الحلّ الأمثل في معظم الأوقات. كما أن بعض المعايير التي يتمّ أخذها بعين الإعتبار كالمعيار الديني، تُعقّد الأمور أكثر وتُقلّل حكمًا من فعّالية القرار السياسي.

عمليًا، ما هي القيمة المُضافة لأعتماد دراسة الجدوى الإقتصادية في القرار السياسي؟ هذا الأمر بدون أدنى شكّ سيزيد من فعّالية القرار لأنه يأخذ بعين الإعتبار كل الإحتمالات ويُعطي كلفة/مردود كل إحتمال على حدى مما يُسهّل في عملية الإختيار. أيضًا لدراسة الجدوى الإقتصادية قيمة مضافة من ناحية إدخال بعدّ جديد في ​آلية​ إتخاذ القرار السياسي مما يُخفّف حكمًا من وزن المعايير الأخرى كالعامل الطائفي. ويُمكن القوّل أنه ومع الوقت فإن آلية القرار الجديدة سُتعطي وزنًا أكبر مع الوقت للبعد الإقتصادي مما يُلغي ظاهرة "التعطيل" التي تشتهر بها الساحة السياسية اللبنانية بحكم الديموقراطية التوافقية.

لذا وفي هذا الوقت العصيب الذي يعيشه لبنان مع تأخير تشكيل الحكومة وما له من تداعيات إقتصادية ومالية وإجتماعية، آن الآوان للقوى السياسية اللبنانية أن تعتمد ​البعد​ الإقتصادي في آلية أخذ القرار السياسي علّ ذلك يُعفينا من ظاهرة التعطيل الذي يطال المناصب الحساسة في الدوّلة.