كانت ​الرسوم الجمركية​ التي فرضتها إدارة ​ترامب​ على ​الصلب​ والألومنيوم في بداية حزيران مهمة لقيمتها الرمزية في المقام الأول، وليس لأثرها الاقتصادي الحقيقي. ففي حين أن هذه الرسوم الجمركية كانت تشير إلى أن ​الولايات المتحدة​ لم تعد تلعب حسب قواعد النظام التجاري العالمي، فإنها لم تستهدف سوى 45 مليار دولار من ​الواردات​، أي أقل من 0.25% من الناتج المحلي الإجمالي في اقتصاد الولايات المتحدة البالغ 18.5 تريليون دولار.

ولكن سرعان ما بدأ سريان تعريفة جمركية إضافية قدرها 25% على صادرات صينية بقيمة 34 مليار دولار، وردّت ​الصين​ بالمِثْل على حجم مماثل من الصادرات الأميركية. فغضب ترامب وأمر الممثل التجاري للولايات المتحدة بأن يضع قائمة بسلع صينية إضافية، تزيد قيمتها على 400 مليار دولار، يمكن فرض ​ضرائب​ عليها، وتعهدت الصين مرة أخرى بأن تردَّ بالمِثْل. وهدد ترامب أيضا بفرض تعريفات جمركية على ​السيارات​ المستوردة وقطع غيارها التي تقدر قيمتها بـ 350 مليار دولار. وإذا فعل ذلك، فالمرجح ان يقوم ​الاتحاد الأوروبي​ وغيره من الدول يمكن أن تفرض تعريفات مماثلة على كمية مساوية من الصادرات الأميركية.

والحديث في هذا السياق يعني الحديث عن أموال حقيقية، اي ما يقرب من تريليون دولار من واردات الولايات المتحدة وما يعادل ذلك من مبيعات الصادرات الأميركية و​الاستثمارات الأجنبية​.

ويكمن الغموض في السبب الذي جعل التداعيات الاقتصادية والمالية الناجمة عن هذا التصعيد محدودة للغاية. فلا يزال ​الاقتصاد الأميركي​ تدُبّ فيه الحيوية.

كما وارتفع ​مؤشر مديري المشتريات​ مرة أخرى في حزيران. وتأرجحت بورصة نيويورك، ولكن لم يحدث شيء يشبه رد فعلها السلبي الحاد على تعريفة "سموت-هاولي" سنة 1930. وعانت الأسواق الناشئة من خروج ​رؤوس الأموال​ وضعف العملة، ولكن ذلك لا يرجع إلى أي إعلانات صادرة عن ​البيت الأبيض​ بقدر ما هو ناجم عن رفع المصرف ​الاحتياطي الفيدرالي​ لأسعار الفائدة.

وتوجد ثلاثة تفسيرات محتملة. أولاً، ربما يكون مديرو المشتريات والمستثمرون في سوق الأوراق المالية يراهنون على أن الغلبة في النهاية ستكون للعقلانية. وربما يأملون أن تكون تهديدات ترامب مجرد كلام لن يطبقه، أو أن تظهر في نهاية المطاف اعتراضات ​غرفة التجارة الأميركية​ وغيرها من جماعات رجال الأعمال.

ولكن ذلك يتجاهل أن حديث ترامب عن زيادة التعريفات الجمركية يحظى بشعبية كبيرة في قاعدته. فقد أظهر أحد استطلاعات الرأي الأخيرة أن 66% من الناخبين الجمهوريين يؤيدون ما هدَّد به ترامب من فرض رسوم جمركية ضد الصين. وكان ترامب في عام 2016 قد قطع على نفسه عهدا قبل أن يتولى منصبه بتوفير الحماية الجُمركية كي لا يسمح للبلدان الأخرى باستغلال الولايات المتحدة. وينتظر منه ناخبوه الوفاء بهذا العهد، وهو يعلم ذلك.

ثانياً، ربما تكون الأسواق تراهن على أن ترامب على حق حينما يقول إن من السهل الفوز في ​الحروب​ التجارية. وقد تستنتج البلدان الأخرى التي تعتمد على التصدير إلى الولايات المتحدة أن من مصلحتها أن تستسلم. وفي مطلع شهر تموز، أفادت التقارير أن ​المفوضية الأوروبية​ تفكر في صفقة لخفض التعريفات الجمركية لمعالجة شكوى ترامب من أن الاتحاد الأوروبي يفرض على ​السيارات الأميركية​ ضرائب بأربعة أضعاف معدل الضرائب الأميركية على السيارات الأوروبية.

لكن اللافت ان الصين لا تبدي أي استعداد للاستسلام للضغط الأميركي. كما أن ​كندا​، وهي من أكثر البلدان التي تظهر ان نيتها سليمة ولا تريد التصعيد، ترفض أيضا الخضوع للتنمر، فقد ردَّت بفرض تعريفة جمركية بنسبة 25% على 12 مليار دولار من السلع الأميركية. ولن يفكر الاتحاد الأوروبي في تقديم تنازلات إلا إذا قدمت الولايات المتحدة بعض التنازلات في المقابل مثل إلغاء تعريفاتها الباهظة على ​الشاحنات​ الصغيرة الخفيفة المستوردة وإلا إذا سايره في ذلك مُصدِّرون آخرون مثل ​اليابان​ و​كوريا الجنوبية​.

ثالثا، يمكن أن تكون التأثيرات الواقعة على الاقتصاد الكلي نتيجة للمجموعة الكاملة من التعريفات الأميركية، بالإضافة إلى الردّ الأجنبي، صغيرة نسبياً. فالنماذج الرائدة للاقتصاد الأميركي، على وجه الخصوص، تشير إلى أن أي زيادة بنسبة 10% في تكلفة السلع المستوردة ستؤدي إلى زيادة ​التضخم​ لمرة واحدة بنسبة 0.7% على الأكثر.

وهذا ببساطة هو التطبيق العملي لقانون الكسور المتكرّرة. فالواردات تمثل 15% من ​الناتج المحلي الإجمالي الأميركي​. فإذا قمنا بحساب معدل التعريفة المفترضة، فسنحصل على 1.5%. وإذا وضعنا في الحسبان بعض البدائل بعيدا عن السلع المستوردة الأعلى تكلفة، سيقل الرقم عن 1%. وإذا تباطأ النمو بسبب ارتفاع تكلفة المدخلات الوسيطة المستوردة، فيمكن للمصرف الاحتياطي الفيدرالي ​تعويض​ ذلك برفع أسعار الفائدة ببطء أكبر. ويمكن للبنوك المركزية الأجنبية أن تحذو حذوه.

ومع ذلك، لا يزال القلق مسيطر، لأن النماذج الاقتصادية القياسية معروفة بأنها لا تجيد فهم تأثيرات انعدام اليقين على الاقتصاد الكلي، التي تتسبب فيها الحروب التجارية بروح انتقامية. ولأن خطط الاستثمار تُعدّ مسبقا، فقد يستغرق الأمر عاما، على سبيل المثال، ليتحقق تأثير عدم اليقين كما حدث في ​المملكة المتحدة​ عقب استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016. وفرض الضرائب على المدخلات الوسيطة سيضر بالكفاءة، في حين أن نقل الموارد بعيدا عن قطاعات التكنولوجيا المتقدمة الديناميكية لصالح التصنيع التقليدي سيؤدي إلى خفض نمو الإنتاجية، بالإضافة إلى مزيد من الآثار السلبية على الاستثمار. وهذه نتائج لا يستطيع المصرف الاحتياطي الفيدرالي تعويضها بسهولة.

ولذلك فإن أفضل رد على مَنْ يرون أن التداعيات الاقتصادية والمالية لحرب ترامب التجارية ضئيلة على نحو يدعو إلى الدهشة هو: إن غدا لناظره قريب.