من إيجابيات الإنتخابات النيابية أن الأحزاب السياسية بدون إستثناء تعهّدت كلها بمحاربة ​الفساد​ في حال وصولها إلى الندوة البرلمانية. الأن وقد وصلت هذه الأحزاب إلى السلطة وتُعدّ لتشكيل الحكومة، من المفروض أن تعمد إلى تنفيذ وعودها الإنتخابية بمحاربة الفساد عبر منهجية متكاملة.

ليس بالجديد القول أن الفساد يضرب بشكل مباشر وغير مباشر الإقتصاد عبر آليات إقتصادية، والمالية العامّة عبر حرمانها من مداخيل. هذا التأثير يُكلّف الإقتصاد ال​لبنان​ي مبلغ 10 مليار دولار أميركي سنويًا منها 5 مليارات دولار أميركي بشكل خسائر مباشرة على الخزينة وخمسة مليارات ​دولارات​ أميركية بشكل غير مباشر من خلال خسارة الفرص الإقتصادية. وتُشير الحسابات التي قمّنا بها إلى أن التهرّب الضريبي يُشكّل وحده 7.2% من الناتج المحلّي الإجمالي أي ما يوازي 4 مليار دولار أميركي سنويًا.

التداعيات الإقتصادية

الأضرار على الإقتصاد نتيجة الفساد تتمثّل بخسائر على المُستثمرين والمُستهلكين لحساب قلّة مسؤولة عن الفساد وبالتالي هناك تغيير في قواعد اللعبة الإقتصادية خلافًا لما هو منصوص عليه في القوانين المرعية الإجراء:

أولًا – الفساد يُشوّه سمعة لبنان عالميًا وبالتالي يُفضّل المُستثمر الأجنبي ​إستثمار​ أمواله في إقتصادات لا فساد فيها. وحرمان لبنان من هذه الإستثمارات يعني أنه لن يكون هناك نمو إقتصادي بحسب ما تنصّ عليه النظرية الإقتصادية.

ثانيًا – الفساد يعني أن هناك إحتكار للموارد في يد مجموعة قليلة من الناس وبالتالي هذا يؤدّي إلى تخلّف إقتصادي. وهذا الأخير هو صفة تُعطى للإقتصاد حين يكون هناك موارد غير مُستخدمة في الماكينة الإقتصادية.

ثالثًا – الفساد يؤدّي إلى توزيع غير عادل للثروات كما هو منصوص عليه في اللعبة الإقتصادية مما يتعارض والإنماء المُستدام المنصوص عليه في شرعة "​التنمية المستدامة​" للأمم المُتحدة.

رابعًا – يمنع الفساد من ضمان توزيع سليم للموارد بطريقة تُعظّم النمو الإقتصادي وهذا ما يُصنّف في خانة غياب الفرص الإقتصادية والتي تبقى الكلفة الأكبر على الإقتصاد (تأثير غير مباشر).

خامسًا – يؤثّر الفساد على الإقتصاد الحرّ ويُفقد المُستثّمر والمُستهّلك الثقة بالإقتصاد والتي تُعتبر المُحرّك الأساسي لأي عملية إقتصادية.

سادسًا – يمنع الفساد الدوّلة من الإستثمار في الإقتصاد كما تنصّ عليه النظرية الإقتصادية وبالتالي يمنعها من التدخل حين يكون الإقتصاد في قعر الدورة الإقتصادية. كل هذا يتمّ من خلال حرمان خزينة الدولة من المداخيل.

سابعًا - الفساد يسمح بتفشي الجرائم المالية مثل ​تبييض الأموال​ عبر مزج عملية تبييض الأموال بالنشاطات الإقتصادية. وهذا الأمر يُلقي بالشبهة على القطاع الخاص من ناحية أنه يعتبر الواجهة لعمليات المُحترفين. وبالتالي هناك تداعيات إقتصادية كبيرة من ناحية تعرض الإقتصاد لعقوبات أو أزمات (في حال تمّ تشديد المراقبة). وإذا إرتفع حجم تبييض الأموال نسبة إلى الناتج المحلّي فإن الإقتصاد يكون عرضة لزعزعة كبيرة.

ثامنًا – إن الفساد يدفع إلى إظهار أرقام خاطئة عن الإقتصاد مما يجعلّ من شبه المُستحيل وضع سياسات إقتصادية سليمة.

التداعيات المالية

الأضرار المالية هي الأكثر بروزًا من ناحية أن تداعياتها فروية:

أولًا – حرمان خزينة الدولة من العائدات (ضرائب، فواتير، رسوم...) وهذا الأمر يخلق عجز في ​موازنة​ الدوّلة. ويُمكن ذكر التهرّب الضريبي كظاهرة تستخدم الفساد وتُكلف الدوّلة مبالغ طائلة كانت الخزينة العامة لتنعمّ بها.

ثانيًا – يؤدّي الفساد إلى تحميل الدوّلة كلفة أكبر مما هو مُتوقّع في ​الموازنة​. فعلى سبيل المثال العجز في الموازنة الناتج عن حرمان الخزينة من أموال، يتحوّل إلى دين عام يُلزم الدوّلة دفع فوائد والتي يُمكن تصنيفها (أو أقلّه قسم منها)ككلفة للفساد. أيضًا يأتي ​التوظيف​ العشوائي ليزيد من كلفة ​الأجور​ مما يعني خسارة على الخزينة.

ثالثًا – الفساد يخلق ما يُسمّى في اللغة الإقتصادية بـ "الفيل الأبيض" وهو عبارة عن مشاريع لا فائدة إقتصادية فعلية تُكلف الدوّلة أموال طائلة.

رابعًا – إن تبييض الأموال من خلال الفساد، له تأثير سلبي على العملة الوطنية من ناحية أن تعرّض العملة إلى أزمة أو ضغوطات لا يسمح للسلطات النقدية بمعرفة مصدر الأزمة نظرًا إلى أن مثل هذه العمليات هي عمليات سرية. وبالتالي فإن الدفاع عن العملة سيكون له كلفة.

محاربة الفساد

محاربة الفساد بحاجة إلى إرادة سياسية قبل كل شيء، فالفساد في لبنان يستمدّ قوته من الإنقسام السياسي والطائفي. والمسّ بفاسد يعني بـ "اللغة اللبنانية" المسّ بطائفته وبالتالي تمّ حجب الأنظار عن الفاسدين بحجّة "الحفاظ على السلم الأهلي".

يُعرّف الفساد بـ "إستخدام شخص لمنصب (سلطة) مُعطاة له بالوكالة لأغراض تتعلق بإثراءه الشخصي أو خدمة للمجموعة التي ينتمي لها". ولكن التعريف الأكثر فعالية هو تعريف روبرت كليتغارت الذي قال أن الفساد هو إحتكار + سلطة – شفافية. ونقترح إضافة عدم أهلية الشخص على معادلة كليتغارت لتُصبح هذه المُعادلة: الفساد = إحتكار + سلطة + عدم أهلية صاحب القرار – الشفافية.

هناك الكثير من الخطوات التي يُمكن من خلالها لجم الفساد نذكر عدد منها:

أولًا – تعزيز الشفافية: فكلما زادت الشفافية قلّ الفساد وهذا الأمر يفرض قوانين تُعزّز الشفافية في ​القطاع العام​ كما والقطاع الخاص. على سبيل المثال يجب معرفة أصحاب الحقّ الإقتصادي للشركات في لبنان ويجب أن تكون منشورة وبشكل مجّاني على موقع إلكتروني تابع للسجّل التجاري. أيضًا يجب أن يكون التصريح عن مُمتلكات موظّفي الدوّلة (كل الفئات) إلزاميًا ويجب أن يكون هناك هيئة لمراقبة ثروات موظفي المناصب الحسّاسة.

ثانيًا – يجب تعزيز الرقابة على شركات الأوفشور والشركات العقارية والمهن الحرّة في الإجمال عبر تدعيم وزارة المالية بمديرية تُعني بشؤون الفساد تكون تحت الرقابة القضائية وذلك بهدف منع ​تبييض أموال​ الفساد.

ثالثًا – تبقى السريّة المصرفية (على الرغم من أهميتها الإقتصادية) عائقًا أمام وزارة المال من ملاحقة المُتهربين من دفع الضريبة وهذا الأمر يتوجّب تعديله.

رابعًا – يتوجّب على ​الشركات الكبيرة​ المتداول أو غير المتداول بأسهمها في البورصة نشر الأموال التي تتقاضها من أعمالها مع الدولة اللبنانية عن كلّ مشروع تقوم به.

خامسًا – يجب تحسين ​آلية​ المناقصات العامّة والسماح للجمعيات التي تُعنى بهذا الشأن بمراقبة فض المناقصات.

سادسًا – يجب تحويل كل المعاملات الإدارية مع الدولة إلى بوابة إلكترونية تتمّ من خلالها (الحكومة الإلكترونية).

سابعًا – يتوجّب وضع تفاصيل الموازنة ومداخيل الدولة وإنفاقها على البوابة الإلكترونية لوزارة المال بشكل مُفصّل يسمح للمواطن أو المُتابعين من مراقبة مالية الدولة التي هي شأن عام.

ثامنًا – يجب على الدوّلة اللبنانية محاربة ​الفقر​ الذي ينهش المواطن والذي يُعتبر مُحرّك أساسي للفساد.

تاسعًا – خلق هيئة وطنية لمكافحة الفساد لا تخضع للسريّة المصرفية وتكون مهمتها الأساسية ملاحقة الفساد وضربه كما وخلق قاعدة بيانات للعقود في القطاع العام.

عاشرًا – تفعيل عمل الأجهزة الرقابية وعلى رأسها ديوان المُحاسبة وإدارة المنقاصات و​التفتيش المركزي​.

حادي عشر – إعتماد مبدأ المداورة في المناصب الحساسة (مثلًا كل سنتين) مما يمنع الفساد من التغلل في الإدارة العامّة.

الإرادة السياسية التي أظهرها رئيس الجمهورية لمكافحة الفساد والتي تلاقت معه الأحزاب السياسية خلال الحملة الإنتخابية تُبشّر أن هناك خطوات جدّية يُمكن أن تُتخذ على صعيد محاربة الفساد. وعلى أمل أن تفي الأحزاب اللبنانية بوعودها، نرى أنه لا يُمكن للبنان النهوض من مأسته الإقتصادية والمالية إلا عبر مكافحة هذه الآفة.